أدب عربي

أَخْبَرَهَا الظِّلُ

أَخْبَرَهَا الظِّلُ

هاجر منصور سراج 

22 إبريل،  2025


تجهل الفتاة هوية الظل! يخبرها دائمًا أنَّه يستطيع أن يكون ما تريد. يخبرها أنَّه يستطيع أنْ يمد الذراعين إلى السماء عاليًا ويلتقط السحاب. وثقتْ به، ورمتْ إليه كل مفاتيح الحُرِّيَّة المنزوعة. جل في الآفاق وعد إلى مسكنك الدافئ!

***

في المنزل، يسير كل ظِلٍّ خلف صاحبه، وقد يسير الشخص دون ظلِّه إن نَزَلَ الخصام الثقيل. في كلِّ مكانٍ تتلفَّتُ فيه، تجدهم حولها. قيل لها إنَّ الظل يكبر معها، وإنَّ عليها أن تبقيه تحت سيطرتها. في سن المراهقة، يتمدد الظل، وقد يهرب، فيتشرد الإنسان بحثًا عنه. يقول الطبيعيون من الناس إنَّ سن المراهقة مليء بالتمرد والاحتجاج؛ لكن عائلتها ترد كل علةٍ إلى الظل.

في مراهقتها، لم يفر منها الظل؛ بل اقترب واقتحم كل خليةٍ ساكنة. شعرتْ به يجول داخلها، يتنفس معها، يأكل معها، يكسب كل شيء… ليس كما تفعل الظلال عادةً؛ بل بشكلٍ آخر! كان يكبر، وكانتْ تضعُف. لم يكتشف أحدٌ ذلك رغم ما تبدَّى جليًّا في عينيها. أرجع الجميع ذلك إلى نزوةٍ غريبةٍ في إخافةٍ الناس حولها؛ لأنهم لم يسمعوا قط بالظل الذي يستحل الإنسان.

***

أرادت الفتاة أن تستيقظ؛ لكنها لم تستطع. كان كل شيء في جسدها مثقلٌ بقيدٍ خفي، وكانت عيناها فارغتين من كل نورٍ حي. لم يعرف أحدٌ عنها، وظنوا أنَّها تتملص وتتهرب من الذهاب إلى الجامعة، كعادتها دائمًا. ضجرت الأم من ندائها، وغضب الأب ولعنها، سخر الأخوة منها، وابتعدت الأخوات حانقات.

قبيل الغداء نادتها أمها عشر مرَّاتٍ؛ لكنها لم تكن قادرةً على السمع. كانت قد أضحت عمياء، والآن صماء. بقي لديها الإحساس الغبي بنعومة الشراشف تحتها وفوقها. ورغم غياب معظم الأحاسيس، كانت تشعر بالدوار. كانت تشعر بنفسها في مكانٍ متراخٍ متدلٍ، يهزهزها شيء ويهددها بالسقوط. كانت تشعر بتلك القبضة ترتخي وتشتد… وكل هذا تهديد خفي لم تعرف صاحبه، ولم تستطع الكلام.

حين فتحت عينيها بعد مدةٍ غير معلومة، لم يكن ثمة شيء واضح حولها… كل شيءٍ كان غريبًا، ومبغوضًا. كانت في عالمٍ أسود.

***

تهب الريح من اللامكان. تستطيع الفتاة أن تستنشق الريح وتتبعها نحو الهواية التي تهب منها؛ لكنها تسير ولا تبلغ شيئًا. تسمع العناكب تهرول وتركض. تستطيع أن تصرخ للجميع أنَّ العناكب تجري، وأنَّ جريها يشبه عدو الأحصنة؛ لكنهم لن يصدقوها… كعهدهم دائمًا.

يقول الظل إنَّ هويته مجهولة. إنَّه يستطيع أن يفعل كل شيءٍ، إنَّها تمتنع فقط عن الاستجابة له؛ وبسبب هذا ستستحيل إلى ظل هي الأخرى. هتفتْ: لا! لا! أنا خائفة! أرجوك! أنا لا أريد أن أصبح ظلًّا!

كانت تعلم أنَّ الظلال ليست سواء عبيد شاردة متمردة، وحين يتم إخضاعها، لا تجرؤ بعدها على العصيان. كان ذلك مرعبًا؛ لأنَّها رأت ظلال والديها وظلال كل الكبار مقيَّدةً بالأغلال إليهم. رأت الأغلال حول رقابهم، وفي أقدامهم، وحول معاصمهم. وكانت ترى المتمردين منهم مثبتين بالدبابيس على الجدران. دبابيس كثيرة عجزت عن إحصائها. تتذكر ظل أمها… كان مثبتًا على جدار المطبخ دائمًا… بالسكاكين، ولم تستطع أن تنقذه يومًا رغم استنجاده دائمًا. رأت أمها تجلده بسوطٍ غريب، ففزعتْ. وحين استشعرت أمها خوفها، أخبرتها أن هذا العقاب للظلال فقط.

إن استحالتْ ظلًّا ستعاقب بذلك السوط المليء بالمسامير!

***

سمع الظل خوفها، وشعر به في دمها. أخبرها ضاحكًا إنه لن يفعل شيئًا… جل ما يريده هو حريةٌ… حريةٌ لفترةٍ قصيرة. قالت له إنَّ الناس سيعلمون أنَّ ظلها مفقود، ثم سيستحيل كل شيء جحيمًا.

أيُّ جحيمٍ هذا؟

جحيم الكبرياء المفقود.

ضحك وعمَّ ضحكه المكان، ثم اختفى.

***

اتفاقٌ صغير. ستذهب حين ينام الجميع.

ثم فقدتِ السيطرة.

أصبح يغيب متى يشاء، وأصبحتْ تسوغ غياباته أمام الجميع. قالت إنَّها كلَّفته بشيء، وإنَّه أضحى عبدًا منصاعًا، وإنَّه لن يفقد ولاءه.

ضحك أخوها، وكان ظله مسحوقًا تحت قدميه يبكي. كان الأب غاضبًا أيضًا، متجهمًا أيضًا؛ لكنَّ ظلَّه كان باسمًا، يُنقِّل بصره بين الجميع. وبين الفينة والأخرى كان الأب يسكب عليه ماءً ساخنًا ليتوقف عن الابتسام.

أختها الكبرى ذات مظهرٍ جذاب، تبدو دائمًا في أبهى حلَّتها حتى بعد الاستيقاظ؛ لكنَّ ظلَّها غريب الشكل، قبيح المظهر، وله يدٌ زائدةٌ يختلف مكانها كل يوم، فتارةً تبرز من العنق، وتارةً تظهر من البطن.

الأخت الصغرى كثيرة اللعب، كثيرة الضحك، وظلها متعب، منهك، باكٍ.

الأخ الآخر ضجر دائمًا، وظله غريب الأطوار؛ ولذلك مزَّقه وقطَّعه… لكنَّ جروح الظلال تلتئم سريعًا.

وهي؟

لا تدري. تروح وتجيء، تفعل كل شيء. علاماتها عاليةٌ في المدرسة، ومظهرها جذاب، وكلامها مفعم بالمعاني والألغاز. كل شيء في مكانه الصحيح؛ لكنَّ ظلَّها غريب، فلا هو نقيضها، ولا هو شبيهها، ولا هو محض متمردٍ أرعن. يبدو دائمًا أذكى منها؛ كأنما سلب دماغها عندما استحلَّ رأسها.

يعود ليلًا، ويجلس أمامها متربعًا، وتستيقظ بسبب تحديقه المتواصل.

***

الظلال لا تملك عينين؛ لكنَّها تشعر بعينيه ينغرسان في عينيها عميقًا حتى إنَّ إطباق جفنيها لا يعني شيئًا أبدًا.

أخبرها أنَّ المدينة جميلةٌ؛ لكنها كانت تعيش في الريف. ريف بعيدٌ لا يسكنه إلا أصحاب الظلال المرعوبين من تمرد ظلالهم.

أخبرها أنَّ الحياة في المدينة رائعةٌ.

قالت إن المدينة صاخبةٌ، وليس فيها مكان للظلال_

أتمَّ كلامها: في الأماكن كلها يخضع البشر، وتغيب الظلال.

شعرت بضلعٍ ينكسر كأنما زجاجة رقيقةٌ، وترك ذلك صدىً مدويًا ضحك له الظل وغاب.

***

استقلَّت الحافلة، واتجهتْ صوب المدينة. لم يعرف أحدٌ نيَّتها، وكان الظل يمشها خلفها باسمًا. وحين جلستْ، تمدد في حضنها وابتسم. قالتْ له إنَّ الطريق ستطول، وإنَّ المسافرين سيصعدون، فاستحلَّها ليفرغ مكانًا للآخرين.

شعرتْ بفمه الواسع يطبق على قلبها، ويمضغه. شعرتْ بلعابه، وبأسنانه، وبلسانه يطوي قلبها ويقلبه. ثم شعرتْ بقلبها المسحوق يُبلع. تأوَّهت، وفقدت كل شعورٍ بالحياة.

***

حين استيقظتْ، كانت كل ظلال العالم حولها. أخبرها ظلها الكبير المتمرد أنَّها لن تحيا سوى بقلب ظلٍ، وأنه هو من ساعدها، وأنَّ كل هذا سيجعلها مدينةً له حتى آخر لحظةٍ في حياتها، حتى آخر نفس.

ابتسمت… ثم غاب كل شيء مجددًا.

***

حين استيقظت كرَّةً أخرى، كانت في البيت مجددًا، ولم يكن ثمة حولها أحد. استطاعتْ أن تسمع نداء أمِّها عشر مراتٍ، وشمَّتْ رائحة الطعام.

الأب غاضبٌ كعادته دائمًا، وظله يضحك وينادي الجميع. صفعةٌ، ثم ماءٌ ساخنٌ، وسكن الظل، وربما فقد الحياة.

هل يستطيع الناس أن يمضغوا ظلالهم؟ ربما لو التهمتْ ظلَّها سينتهي كل شيء. ستصبح الحياة محض قذارة يمكن العيش فيها بدلًا من محاولة ترويض ظلٍّ ثقيل.

لم يعد الظّلُّ. غاب أسبوعين كاملين، وشعرتْ براحةٍ عجيبة. لم يكن الظل تحتها، بل كان فوقها دائمًا… والآن تخلَّصتْ منه.

***

عاد! عاد! عاد وكبَّلها الخوف، وتمرَّد كل شيءٍ داخلها؛ لكنَّ قلب الظلِّ داخلها أجبرها على الخنوع. تمددتْ تحت قدميه، وتقبَّلتْ ضرباته الخافتة؛ لأن أهل المنزل نيام.

ماذا كنتِ تفعلين في غيابي؟

لم تجب، فعادت الضربات، لكنَّها كانت أشدَّ قليلًا.

ماذا فعلتِ في غيابي؟

لا شيء.

لا شيء؟ ولماذا قلب الظل مغلَّفٌ بالبسمة، وبالقراطيس اللامعة؟

لا أدري. ربما هو تالف ومعطوب.

قلوب الظلال لا تتلف… لأنَّها تالفةٌ مسبقًا!

صوتُ الظل في خارجها، وصوت قلب الظل داخلها.

أنا لم أزرع هذا القلب فيكِ كي تتمردي؛ بل كي تخضعي!

أنا آسفة! آسفة!

ابكِ! اذرفي دموعًا ثقيلةً، واضربي رأسكِ في الجدار.

وحين استيقظ الجميع، أخبرتهم أنَّها تعاقب ظلها، ففرحوا.

***

كَبُرَتْ. انقضت الأعوام، وهي تُضْرب كل يوم. كان يخبرها في الصباح أنَّها جميلةٌ، ومن أبرز حقوقها أن تكون سعيدةً. وحين تعود مكتئبةً، يصفعها.

إنَّه ظلُّها، وهو يشبهها؛ له شعرها الأجعد الطويل، وله شكل جسدها الممشوق. تتأمل كل شيء فيه، وتوقن أنَّه ظلها، وأنَّه يكبر معها؛ لكنْ في صدر الظلِّ نقطةٌ بيضاء… قبضةً بيضاء… قلبها الضائع.

إنَّ ظلها هو هي!

هو هي!

لكنها لا تسطيع أن تصل إليه أبدًا… وها هو يأخذ كل شيءٍ منها ويمضغه.

استطاع الآخرون أن يروِّضوا ظلالهم، بينا انقلب عليها ظلُّها، وانتهى بها الأمر إلى مكانٍ أبيض، ورداء أبيض.

أخبرت الجميع أنَّها امرأةٌ عاقلة؛ لكنهم لم يجدوا سببًا لكل الأحداث في حياتها سوى أنَّ عقلها قد مُضِغ. أخبرتهم أنَّ قلبها ما نُزِع منها، لكنَّهم أصرُّوا أنَّ عقلها هو المنزوع!

Ibnulyemen Arabic

Recent Posts

الْفُسْتَانُ الْمَصْلُوب

الْفُسْتَانُ الْمَصْلُوب هاجر منصور سراج  29 إبريل،  2025 الفستان الأحمر مرصع بخرزات لامعة، والتاج الصغير…

3 hours ago

انْتِظَارٌ خَائِب

انْتِظَارٌ خَائِب هاجر منصور سراج  24 إبريل،  2025 كنتُ قَلقًا. وطوال الطريق إلى المدينة، أخذ…

3 hours ago

الرواية اليمنية بين الماضي والحاضر

الرواية اليمنية بين الماضي والحاضر هاجر منصور سراج  19 إبريل، 2025 تعد الرواية فنًا إبداعيًا…

5 hours ago

أين تختفي الأشياء؟

أين تختفي الأشياء؟ هاجر منصور سراج  17 إبريل،  2025 أين تمكث الرياح حين لا تهب؟…

2 weeks ago

هِي خَائِفَة

هِي خَائِفَة هاجر منصور سراج  15 إبريل،  2025 تخرج العصافير كل يومٍ من مكامنها في…

2 weeks ago

وَجْهٌ ذَائِب

وَجْهٌ ذَائِب هاجر منصور سراج  12 إبريل،  2025 تبدو دائمًا كأنها تراعي طفلة نائمة. تتحرك…

2 weeks ago