هاجر منصور سراج
24 إبريل، 2025
كنتُ قَلقًا. وطوال الطريق إلى المدينة، أخذ يلح عليَّ خاطرٌ أن القفز من السيارة إلى المنحدر وفقدان روحي خيرٌ من أن أظل في ذلك الانتظار المريع، دون أي تفاصيل عن الحادثة. لم أخبر أحدًا عن مشاعري، لكن تبدى في أعينهم فهم غريب لكل ما كان يجول في خاطري: خوف، قلق، هلع، هواجس كثيرة.
تسير السيارة متئدةً مزمجرة، وهي تصعد الجبل منعطفًا تلو آخر. يحلو لي النظر إلى الأسفل مستشعرًا الريح تخدش وجهي وتُدْمِع عيني. سمعتُ حوادث كثيرةً عن الذين قضوا نحبهم في طرقٍ مشابهة؛ لكني لم أتلبس مشاعرهم مطلقًا؛ بل كنتُ أكتفي دائمًا بالترحم عليهم ونسيانهم. أمَّا الآن والخوف والهلع يتقد داخلي، فكان ثمة شعورٌ طاغٍ يستنزفني ويصور لي كل المراحل المريعة التي مرَّ بها الموتى في هذا الطريق الجبلي، قبل أن يلفظوا أنفاسهم أخيرًا.
تراءى لي شبح الموت طوَّافًا في الجبل. كان السائق يتمتم بالأذكار طوال الطريق، وقبل ساعة كان قد شغَّل القرآن؛ فما كان من كل هذا إلا أن فاقم ذعري وشتت هدوئي الذي راكمته وجمعته أمامي في السيارة وجعلتُ أخاطبه دون أن أجد منه انتباهًا؛ إذ كانت الريح تكركر ضاحكةً راكلة كلَّ شيء أجمعه، ثم تفر إلى حضن شبح الموت وتحتمي به.
تجاوزنا المنعطفات أخيرًا، فأخبرنا السائق أنَّ ساعةً فقط بقيت كي نصل إلى العاصمة. مدَّ أخي إليَّ حزمة القات، فرفضتها؛ إذ فضَّلتُ أن أحافظ على هلعي وتوقعاتي السيئة، بدلًا من حالة الطفو العجيبة التي يسلمني إليها القات، وفضَّلتُ أنْ أتعاطى مع المشكلة بعقلي كاملًا، بعيدًا عن الساعة السليمانية التي يفضل الجميع اغتنامها.
تأملتُ الناس، وأسرفتُ في التأمل حتى تناسيتُ مشكلتي. ولمَّا وصلنا إلى العاصمة أخيرًا، كنتُ قد كبَّلتُ كل مشاعري وانفعالاتي، ولم يبق طافيًا على وجهي سوى الرزانة المعتادة. ترجلنا أمام البيت المنشود، وترجَّل أخوتي وأبناء أعمامي ببنادقهم ورصاصهم. كنتُ مدركًا ما سيعتري أهل البيت من فزعٍ لدى رؤيتهم تلك الصورة؛ لكني لم أكن أفضل حالًا منهم؛ إذ كنتُ أحتزم الرصاص أيضًا، وأتشبث ببندقيتي التي أشبعتها دعكًا وتنظيفًا طوال الطريق.
سجَّلتُ في ذهني فزع الناس، حين رأونا كذلك في ذلك الحي الهادئ الراقي، وتساءلتُ عن مبلغ فزعهم إن سمعوا دوي الرصاص. كنا قومًا غير متحضرين، وفي قضايا الشرف والعرض لا بُدَّ من إراقة الدماء على مذبح إرضاء الذات، والغرور، والكرامة. كنتُ أدرك مبلغ الخطأ في هذا كثيرًا من الأحيان، لكني لم أحجم عن تنفيذ كلمات والدي مطلقًا. لا قدرة لي على التمرد على أعراف القبيلة؛ بل إنني لا أفكر في التمرد أبدًا؛ إذ أمتدح نظام القبيلة دائمًا، وأجعله شرعًا دينيًا آخر، وأقدِّسه أيما تقديس.
استقبلنا زوج أختي مجفلًا متأهبًا للشجار؛ لكن منظر البنادق كان كفيلًا بزعزعة عزم أعتى الرجال؛ فربض صامتًا منتظرًا كلمتي. أخبرته أنَّ أخته الهاربة سيكون مصيرها الموت، فارتجفت أصابعه، لكنه لم يعلِّق. شتت بصره في الديوان الواسع، ولم يلتمس عذرًا لأخته التي قلقلت هدوء القبيلة. أخذنا تفاصيل هروبها من زواجها من ابن عمها، وسأل أخوتي إن كانت تملك صاحبًا. كنتُ قويًّا رزينًا، وكنتُ قد تساءلتُ عن ذلك طويلًا، وكنتُ قد تجهزتُ لأسوأ وأبشع الاحتمالات؛ لذلك لم يطفُ شيء على وجهي غير رزانة ابن الشيخ وترقبه وإن خفق قلبي مرتعشًا.
أَنْكَرَ الأخ. تبادل أخوتي وأبناء أعمامي نظرات مستنكرة مستغربة، وأخذوا يسألونه كيف أن له جرأةً لذلك التصريح، وهو حتى لم يعلم متى هربت! قال إنَّهم استيقظوا فلم يجدوها. بعد صراع طويل لأخذ موافقتها على الزواج من ابن عمِّها، رمت موافقتها في وجوههم واعتزلتهم؛ لكنهم ناموا مرتاحي البال. وحين استيقظوا، لم يجدوا لها أثرًا. اختفت دون شيء سوى بضعة ملابس وحفنة قروش.
قالوا إنَّ بلاء الانترنت يجعل الخطيئة في كل بيت، وإن الأخ المنكر لا يعرف شيئًا عن أخته، وإنَّهم لا يفهمون سبب استمراره في الدفاع عنها! نظر إلينا صامتًا، ثم وجَّه كلامه نحوي قائلًا إنَّ الأخت الهاربة لم تأخذ جوالها أيضًا. انقضت ساعتان كاملتان في الحديث عن الفضيحة. وطوال الوقت، التزم الأخ بالدفاع عن أخته دفاعًا مستميتًا عكس ما كان الأخوة دائمًا يفعلونه في قبيلتنا. كان كل فردٍ، يقع موقع هذا الأخ، لا يلبث غير دقيقة قبل أن يتبرأ من أخته ويسلم أموره كلها للشيخ. والبعض تأخذهم الحمية أخذةً شعواء؛ فيطالبون بالثأر وغسل الشرف والعرض بأيديهم. يحملون بنادقهم ويبعثرون عظام الجمجمة. أخبرتهم مرَّاتٍ كثيرةً أنَّها طريقةٌ غير نظيفةٌ في القتل، وغير رحيمة؛ لكنني كنتُ أعلم أنَّهم بتلك البعثرة، وتلك الشظايا المتناثرة، والوجه المشوه إنما يقتلون ضميرهم الصارخ، ثم بعدها لا يعيشون سوى أشباح؛ ولذلك كنتُ أقترح دائمًا ألَّا يقوم الأخوة بذلك.
بعد الغداء، تفرَّق أخوتي وأبناء أعمامي للبحث عنها وكشف اسم القبيلة في المرافق الحكومية، حاملين وصفًا دقيقًا للأخت الهاربة. أمَّا أنا فبقيت في منزل زوج أختي صامتًا. حلَّ صمتٌ في الديوان، ولم يفد عليَّ زوج أختي، لكني سمعتُ جداله مع أختنا التي لم تنزل للسلام علينا؛ لوجود أبناء عمنا، فحرزتُ أنَّها تريد السلام عليَّ. انتظرتُ بضع دقائق قبل أن تدخل باسمةً متلعثمة كأنها لا تزال فتاة في السادسة عشرة. سلَّمتْ عليَّ مقبلة يدي وجبهتي، ثم قعدت جواري صامتةً.
لم تنبس بشيء، فأدركتُ أنَّها خائفةٌ مرعوبة. ولمَّا لم يكن لدي فكرة كيف تشعر إزاء أخت زوجها، فقد سألتها. توقَّعتُ أن يكون لديها تلك المشاعر التي تحملها النساء إزاء أخوات أزواجهن؛ كراهية مغلَّفةٌ بالمودة! لكنها قالت إنَّها كانت فتاة طيبةً ورزينةً، ولم يكن ليصدر منها قول أو فعل كالذي حصل؛ لكنها كانت رافضةً ابن عمِّها رفضًا شديدًا، والإجبار شديدٌ على النفس، ويمكن أن يدفعها إلى أيِّ تصرِّفٍ أرعن.
كانت أقوالها غير مترابطة، لكني فهمتُ أنَّ موقفها كموقف زوجها. أردتُ سؤالها أن تجلب لي جوال البنت، لكني ترددتُ. شعرتُ بالخجل يضربني في منتصف جمجمتي؛ لكن شخصية بكر الشيخ تلبَّستني، فأمرتها أن تحضره، فاستجابت صامتةً.
كانت بنتًا عاقلةً لا تملك شيئًا خاصًا. ورغم معرفتي وثقتي في هذا، كنتُ متأكدًا أنَّها قامت بحذف متعلقاتها الخاصة. وبينا كنتُ أفتش، فتحت المذكرة ووجدتُ قائمةً بأشياء لا يجمعها شيء. حجاب، نقاب، عباءة. مصباح، بطارية. صاعق كهربائي، رشاش فلفل، تراب. وأشياء أخرى شتت انتباهي وتركيزي؛ لكن التاريخ الذي كان يشير إلى يومين قبيل إعلانها موافقتها أنبأني أنَّها الأشياء التي حملتها أثناء هروبها.
فتَّشتُ طويلًا منقبض القلب، مستذكرًا وجهها الصغير البهي وعينيها الأخَّاذتين، عاجزًا عن تصديق نفسي إذ تركتهم يجبرونها على ابن عمها، ثم يقودونها مرغمةً باكيةً إليه! أيَّ عقلٍ كان في رأسي حين رددتُ على نفسي أنَّ ابن عمها أحقّ بها؟ ألم أكن أنا من تعلمتُ، وتثقفتُ، ورددتُ على أخوتي أنَّ المرأة إنسانٌ أيضًا؟ ألستُ أنا من ترك زوجته السابقة ترحل حين أرادت؟ طلبت الطلاق، فلم أعتبر ذلك إذلالًا لي، أو تقليلًا من مقامي. أعطيتها ما أرادت وتركتها ترحل، وتركتُ أبناءها يزورونها متى شاءتْ. ردَّدتُ أنَّني لن أجبر امرأةً على شيء لا تريده. وحين أُجبرت المرأةُ التي أردتُها منذ زمن، لم أحرِّك ساكنًا. وحين هربتْ اكتفيتُ بحزم أسلحتي والركض إلى العاصمة لقتلها!
سألتُ أختي لأي شيءٍ كانت البنت ترفض ابن عمِّها، فأخبرتني أنَّها ما انفكت تردد أنَّ إجبار القلب صعب، أنَّها لا تستطيع النظر إلى وجه ابن عمِّها وتعدُّه زوجًا. ثم نظرت إليَّ نظرةً غريبةً مرتعشة الشفتين، وهمست أنَّها كانت تنتظرني… ربما.
نظرتُ إليها غير متأكدٍ مما سمعتُ. أكانت أختي تقول إن أخت زوجها كانت تنتظرني؟ ولم أجرؤ أن أسألها أو أتأكد. وحين ناولتها الجوال خلَّفتني مفردًا، ولم يكلِّف زوجها نفسه عناء النزول لمجالستي. أنفقتُ ساعات طوال في التفكير متذكرًا شكل البنت التي تصغرني بعشرة أعوام، ويترفق أخوتي في شتمها وطعنها ترفقًا بي فقط. الجميع يعلم، الجميع أدرك نظراتي إليها وحلمي بها مهما أخفيته، ولم أستطع أن أدعي غير ذلك، وحين أتفكَّر في الأمر، أتذكر أن زوجتي لمَّحت إلى شيء كهذا؛ لكني حينها لم أكن قد اعترفتُ لنفسي. والآن أجد أنني لا أزال أنكر.
أخرجتُ جوالي وهممتُ بالاتصال بأحد أخوتي؛ لكنَّ رقم والدي أضاء الشاشة. أجبتُ، وقبل أن أنطق بشيء أخبرني أنَّهم عثروا على البنت التي نبحث عنها. هممتُ أن أسأله أين؛ لكنه قال إنَّها في حوزته الآن، وأمرني أن نعود. وقفتُ، وقبل أن أخطو خطوتين كان الأخوة وأبناء الأعمام كلهم في الديوان. أبلغوا الأخ المنكوب بالخبر القادم من القرية؛ فصاح وكتم عبرةً مخزية، ثم ركب إلى جواري.
قطعنا الدرب نفسه. الدرب الملتوي على نفسه، المثير لأفكاري الهلعة المرعوبة. أخذتُ أتخيلها محبوسةً في حبس الشيخ، مقيَّدةً، شعثاء، باكية. تخيَّلتها مريضةً ناحلة، تخيلتها لا تزال تردد رفضها لابن عمها، تخيَّلتُها باكيةً منتظرةً. أكانت حقًّا تنتظرني؟ أنكرتُ الأمر مجددًا أداوي ضميري ومشاعري، ثم مجددًا تملَّكتني شخصية ابن الشيخ؛ فربضتُ صامتًا لا يلوح على وجهي شيء بينا تتحرك الريح ساخطة ساخرة.
وصلنا وقد انبطح الليل على القرية، وتمدد هواء ثخين كريه، ولم يكن في السماء قمر؛ فاستعضنا بمصابيح جوالاتنا. دفعني هاجس ملح سارٍ في جسدي كله إلى الهرولة، بل إلى الركض؛ لكني حافظتُ على رزانة خطواتي وتجهم وجهي، وحافظ الأخوة، وأبناء الأعمام، والأخ المنكوب على صمتهم، وإن ظلَّ القلق يحوم حولنا ونتنفسه.
بدا بيت الشيخ بعيدًا جدًا. وفي كلِّ خطوةٍ أخطوها، يتباعد البيت أكثر أكثر. تراءت لي مجددًا جالسةً بعباءةً سوداء متربة، وشعر أشعث، ومعصمين مقيَّدين بحبال ثخينة؛ ثم تراءت لي ملقاةً مهشمة الرأس مشوهة الوجه. استطعتُ أن أرى دماءها والشظايا الغريبة المقرفة متناثرةً حولها، وقد تجرَّدتْ من ثوب الحياة والجمال، ولم يبق من أنفاسها العطرة سوى دمٍ يُنسب إليها.
وصلنا أخيرًا. كانت النساء محتشدات وراء الأبواب والنوافذ. لم يكن ذلك جديدًا عليَّ، لكنَّ حساسيتي المفرطة استطاعت أن تلتقط رائحة الدموع، وتداعي الأنفاس، والنشيج المحجوب بأكف متعبة.
كان أوَّلُ شيء وقع بصري عليه، حين دخلتُ ديوان والدي الشيخ، المصحف الكبير مفتوحًا. تلوى شيءٌ غريبٌ خشنٌ داخلي؛ فلم أكن أعهد رؤيته مفتوحًا في ساعةٍ شبيهة بهذه؛ بل عادةً ما يحتضنه بين كفيه مغلقًا، كأنما يستمد منه طاقةً كونية. المصحف الآن مفتوحٌ مطروحٌ على كرسيه الخشبي! سلَّمتُ على والدي، وقعدتُ قربه. أغمضتُ عيني متوجسًا مرتابًا. وحين فتحتهما، كان رجال القرية يملؤون المجلس. وحين تكلَّم والدي، لم يصلني غير الطنين. راقبتُ شفتيه منكرًا وهو لا يزال يردد أنَّهم وجدوا تلك البنت الصغيرة الضاحكة في البركة… أن تلك البنت الصغيرة الباكية كانت في البركة ميتةً، منتفخة الجثة، زرقاء، عالقةً… أن تلك البنت الصغيرة المنتظرة رمت بنفسها إلى شبح الموت… هنا، قريبًا من البيت، بعيدًا عن تلك المنعطفات المخيفة… هنا، حيث أستطيع دائمًا أن أنظر إلى البركة وأراها.
تتابع الطنين حولي، فلم أسمع من كلامهم شيئًا، ولم أسمع بكاء الأخ المنكوب، ولم يكن أمامي سوى انتظاري واقفًا خائبًا، ينعتني بأشنع النعوت، ويبكي مرتديًا عباءتها. رمشتُ أزيحه؛ لكنه ظلَّ ماثلًا وأدركتُ مدى خيبتي تسري في دمي وتمتصني قلقًا، وهلعًا، وألمًا؛ وتلبَّستني كل مراحل الموتى، قبل أن يلفظوا أنفاسهم.
الْفُسْتَانُ الْمَصْلُوب هاجر منصور سراج 29 إبريل، 2025 الفستان الأحمر مرصع بخرزات لامعة، والتاج الصغير…
أَخْبَرَهَا الظِّلُ هاجر منصور سراج 22 إبريل، 2025 تجهل الفتاة هوية الظل! يخبرها دائمًا أنَّه…
الرواية اليمنية بين الماضي والحاضر هاجر منصور سراج 19 إبريل، 2025 تعد الرواية فنًا إبداعيًا…
أين تختفي الأشياء؟ هاجر منصور سراج 17 إبريل، 2025 أين تمكث الرياح حين لا تهب؟…
هِي خَائِفَة هاجر منصور سراج 15 إبريل، 2025 تخرج العصافير كل يومٍ من مكامنها في…
وَجْهٌ ذَائِب هاجر منصور سراج 12 إبريل، 2025 تبدو دائمًا كأنها تراعي طفلة نائمة. تتحرك…