هاجر منصور سراج
29 إبريل، 2025
الفستان الأحمر مرصع بخرزات لامعة، والتاج الصغير على رأسها لامعٌ إزاء الشمس والنور المنبعث من آلة التصوير القديمة التي يحملها جدها جذلًا. أمرها الجد أن تبتسم ابتسامة واسعة؛ لكنها لم تستطع سوى ابتسامة فاترة أنبأت عن خوفها وعدم تصديقها؛ فحتى تلك اللحظة لم تصدق أنها حصلت على المركز الأول.
جدتها جالسةٌ قبالها بينا الجد يتحرك جيئة وذهابا مطلقًا نكاتًا لا تفهمها؛ لكنها تفهم سعادته البادية على وجهه، رغم أن الجدة لا تنفك تنهره بين الحين والآخر ليصمت؛ لكنه لا يرتدع أبدًا. قال إنه سيتصل بأخيه ليسأله عن حفيده الأحمق ويتباهى بها؛ لكنها تعلم أنها لا تستحق ذلك الفستان، ولا تلك التسريحة، التي ما فتئت الجدة تصفها بالملكية بعد انتهت جارتهم الشابة من ترتيبها.
ربما من الأفضل أن تنسحب الآن وتبكي طويلًا حتى يتسنى لها التكفير عن ذنبها. هي لا تستحق المركز الأول مطلقًا؛ بل لا تستحق أن تذهب إلى المدرسة. في العام الماضي، حين كانت أمها لا تزال على قيد الحياة، حصلت على المركز الأول في الصف الأول وشعرت باستحقاق كامل، لكن الآن… والدها لا يتصل مطلقًا، وسمعت خلسةً أن له طفلةً غيرها؛ جدتها مريضة أغلب الوقت، والجد وحده لا يستطيع أن يفعل شيئًا، وخالاتها لا يأتين إلا في الأعياد.
رنَّ الجرس، فمشى الجد راقصًا ليفتح الباب للجارة الشابة… المعلمة كما يجب أن تناديها، فهي لا تعرفها إلا معلمة في المدرسة. وهذا العام، كانت تعلمها في منزلها… وربما… ربما رسبتْ لو لم تعلمها تلك المعلمة. أقبل أبناؤها الثلاثة وعلقوا على فُستانها وتاجها، وقرص إبراهيم وجنتيها محاولًا مسح الحمرة التي نثرتها المعلمة؛ لكنه لم يفلح، فعرض عليه أخوه منديلًا مبللًا، وقبل أن يستأنف عمله، نهرته المعلمة وطردته؛ لكنه انسل مجددًا لينظر إليها نظرةً مفعمة بالـ…؟ لا تدري ما هي، لكنها ذكرتها بنسيبة ابنة المعلمة عقاب.
هي لا تعرف اسم أم نسيبة، لا تعرف اسم معلمتهم. وفي المرة التي سألتهم جارتهم، لم تستطع أن تجب؛ لكنها كانت تسميها في ذهنها (المعلمة عقاب)؛ لأنها تعشق معاقبة الطالبات، ولم ترها تسير دون عصاها الملفوفة بشريط لاصق أسود مطلقًا. عيناها بلون الـ…؟ بلون الأشياء التي تحرقها الشمس، فلا هي حمراء، ولا هي سوداء، ولا هي بنية. هي لا تعرف كيف تصف تينك العينين المحاطتين بكحل كثيف، لا يشبه الخط النحيل الذي رسمته المعلمة الشابة على أشفارها اليوم. تبدو عيناها كأنما كعكة صغيرة احترقت أطرافها!
كانت المعلمة عقاب طويلةً، أو ربما هي قزمة صغيرة بعينين واسعتين بائستين. لطالما نعتتها نسيبة بالقزمة، والفأرة، والعقربة، والجزرة؛ ولم تعرف حتى الآن سبب تسميتها بالجزرة، أما بقية الأسماء فقد سلَّمت أن نسيبة الطويلة البلهاء لا تعرف غيرها؛ بل وتستطيب ترديدها كل حين رغم أنها أمها عقاب تنهرها دائمًا؛ لكنها لا تنفك تعود كما يعود إبراهيم لدعك وجهها.
وجدت نفسها، دون أن تدري كيف، تنحدر وتنحدر بين زميلاتها الأنيقات الجميلات لتصبح محض قزمة بثياب متسخة وشعر غير مرتب؛ فالجد لا يحسن عمل شيء، والجدة متعبة. شزرتها الطالبات الأنيقات، وسخرت منها الأمهات، وعاقبتها عقاب مراتٍ كثيرة؛ لكنها لم تخبر الجدة كما كانت تطلب منها دائمًا؛ إذ أن الجدة لن تستطيع فعل شيء.
تدنت درجاتها. وفي أحد الاختبارات، تركت الورقة دون أن تكتب شيئًا غير اسمها. ولمَّا رأت نسيبة ذلك، شرعت تضحك ملئ فيها، وأسنانها البارزة تشبه أسنان وحش صغير يتهيأ ليكون الأستاذة عقاب في المستقبل. ارتعدتْ ووجمت بينا أخذت نسيبة تخربش ورقتها دون أن تنتبه المعلمة عقاب لها. ولما انتهى وقت الاختبار، نظرت عقاب إلى ورقتها وصاحت بها ووبختها؛ لكنها لا تستطيع تذكر ما قالته؛ إذ أمرت عقلها أن ينسحب، فحدَّقتْ في شقوق الطاولة بينا سمعها يخوص في أمواج البحر الذي زارته، حين كانت أمها حية تضحك. كانت الشقوق عميقةً جدًا، وصوت الموج صاخبًا جدًا. ولمَّا كان الوقتُ ظهرًا، وكان مقعدها قرب النافذة، انسكبتْ عليها أشعة الشمس وأسبغتْ عليها خمولًا عجيبًا، لم تستطع معه أن تسمع شيئًا أو تشعر بنظرات الطالبات الأنيقات؛ لكنها آخر الأمر استطاعت أن تسمع المعلمة عقاب تأمرها أن تقعد.
لم تعط جدها أو جدتها أوراق الاختبارات؛ لكنها إذ رأت تعب جديها، أقسمتْ أن تحاول الحصول على درجة جيدة، وإن أسقطتْ من ذهنها وأحلامها القدرة على الحصول على مركز في ترتيب العشرة الأوائل. كانتْ درجاتها سيئةً في الإملاء والخط، فشرعتْ تكتب طويلًا حتى تحسن خطها، وإن أهملت الواجبات المدرسية. ضاعفتْ عقاب عقوباتها وتوبيخها، فكانت تصرخ طويلًا بينا تحدِّقُ هي فيها صامتةً منسحبةً إلى عالم أمها الضاحك. وأحيانًا تستنشق رائحة العطور التي لا تشبه الرائحة النتنة التي تنبعث من جديها. استلذتْ عالم الأحلام بينا الشمس تنسكب على ظهرها، ودون أن تدري كانت قد شرعتْ تراقب كل شيء حولها بصمتٍ مطبق حتى انتبه إليها الجدان.
انتظرتْ الجدةُ قرب البيت حتى عادت جارتهم المعلمة الشابة وأخبرتها عن حفيدتها الصموت العبوس. استمعت الجارة هادئةً بينا إبراهيم يقفز ويصرخ دون سبب واضح. وعدتها آخر الأمر، وهي تلحق بأصغر أبنائها، أن تنظر في الأمر ما دامتْ تعمل في المدرسة عينها؛ فعادت الجدة آملةً أن يتحسن الحال.
ربما لو علمتْ هي أن تلك الجارة ستأتي إلى فصلها، لحاولتْ جهدها الفرار، أو ربما لدفعتْ المعلمة عقاب من على السلالم لتقتلها، أو لخنقتْ ابنتها الحمقاء الصارخة؛ لكنها لم تعلم لذا فقد تحتم عليها أن تبقَ صامتةً تستمع إلى شكوى المعلمة عقاب منها. ولمَّا أرادتْ أن تصم أذنيها عن كل ذلك وتستشعر أنفاس أمها الدافئة على وجهها، عجزتْ عن ذلك وكللها الإحراج إذ سمعت المعلمة عقاب تخبر المعلمة الشابة عن غشها. أخبرتها أنَّها كانتْ تكتبُ الإملاء في البيتْ ثم تأتي وتتظاهر أنها تكتب متعمدةً ترك بضعة أخطاء؛ حتى لا تلاحظ المعلمة تحسن مستواها.
ربما لو عرفتْ أن ثمة شيء يشبه ذلك الشعور حين نظرت إليها المعلمة الشابة معاتبةً… ربما لو عرفتْ السبب الذي جعلها تتعرق كل ذلك التعرق، ربما… لكنها لا تدري ماذا تفعل! اقتربتْ منها المعلمة الشابة وأخبرتها أنها ستعود معها إلى البيت منذ تلك اللحظة، فأومأتْ دون أن تجرؤ على قول شيء. وعصرًا، قبل أن يعرجا على مدرسة الأولاد، أخبرتها أنها ستعلمها في منزلها، ثم أخبرت الجدة، فابتهجتْ هذه الأخيرة بهجةً لم ترها هي من قبل.
إبراهيم يحملق فيها ولا يتوقف عن شد شعرها ووجنتيها، الأخ الأوسط يسخر من اتساع عينيها، الأخ الأصغر يقعد في حضنها ويرغب في اللعب معها. ومهما تحاول الأم منعهم، لا يستجيبون، لكن… لكنها كانت تأنس معهم أكثر مما كانت تأنس مع الطالبات الأنيقات. كان إبراهيم مكسوًا بالتراب دائمًا، ولا تكاد الكرة تغادر حضنه، بينا أخوه يحمل بين يديه جهازًا غريبًا يصدر أصواتًا. ولمَّا ذهبتْ الأم لتحضر البسكويت، عرض عليها أن تلعب به جولةً واحدة. الأصغر الظريف يحكي عن أشياء كثيرة لا تفهمها؛ لكنها تستطيع أن تفهم أنه يحلم مثلها؛ فهو يرى ضوءًا في شعر أخوته حين يكونون في الشارع؛ لكنه لا يراه في البيت، ويرى أمه طويلةً وقصيرةً في الوقت عينه؛ فهي قصيرةٌ عند الأب، وطويلةٌ عند أخوته. وحين تتحرك الغيوم في السماء هي في الحقيقة تبحث عن أبنائها كما تبحث أمه عنه، وبعد أن تموت أمه ستصبح غيمة في السماء.
رغم أنَّها كانت تعلم أن ذلك باطل؛ لكنها أرادتْ تصديقه. وبعد مدّةٍ، أصبحتْ مقتنعةً أن الغيوم هن أمهات يبحثن عن أبنائهن. والأمهات اللواتي لا يعثرن على أبنائهن يتجمعن ويبكين، وهنا تمطر السماء.
في نهاية ذلك العام، كان صمتها قد انقشع وحلَّ محله صخب إبراهيم، وسخرية أخيه، وثرثرة الأخ الأصغر، وأصبحت المعلمة تنفق وقتًا قبيل الذهاب إلى المدرسة لتسريح شعرها الذي أصبح قصيرًا، رغم اعتراضات الجدة. تمنَّتْ لو أن تلك المعلمة أمها، ودعت الله طويلًا أن يجعل أمها تنزل عن غيمتها وتعود بشرًا. وفي أحايين كثيرة، فكَّرت في أنَّ أمها ربما نزلت عن غيمتها وطلبت من الجارة الشابة أن تعتني بها، وربما… ربما تكون هي نفسها، لكنها تنكر الأمر!
حصلتْ على المركز الأول، ولم تعلم كيف؛ لكنها علمت أنَّ المعلمة عقاب غاضبة. وحين أعربت عن خوفها، أخبرتها المعلمة الشابة أنها لن ترَ المعلمة الغاضبة في السنة القادمة؛ فاستراحتْ، وأصمَّتْ أذنيها عن صراخ نسيبة، وتعامتْ عن تمزيقها شهادتها؛ فرغم بلاهتها وحمقاها كانت دائمًا تحصل على المركز الأول، ولا تعلم كيف!
بعيد الحفلة الصغيرة، أخبرتها الجدةُ أنَّ الجد اشترى لها سريرًا صغيرًا كالذي كان في منزل والديها، وأنها يمكن أن تنام وحدها في الحجرة الصغيرة؛ ففرحتْ وشكرتهما. ولسعادتها أرادتْ أن تكافئ نفسها؛ فتنام بفستانها الأحمر اللامع. وضعتْ تاجها البراق قرب مخدتها وَغاصتْ في عالم الأحلام. سمعت الأمواج تتلاطم قربها، ورأت الفراشات تحوم حولها، ورأت عيني أمها الحانيتين تبسمان لها. بعدئذ، رأت المعلمة عقاب غاضبة صارخة، فالتفتت عنها باحثةً عن المعلمة الشابة؛ بيد أنَّها لم تجدها. شرعتْ تركض وتناديها وتنادي إبراهيم؛ لكنها لم تجد سوى نسيبة التي أمسكتها؛ وهي تنعتها بالجزرة القزمة، ثم شرعتْ تمزق عنها ثيابها، وهي تصارع صارخةً باكية، رغم أنَّها لم تبك مطلقًا مذ ماتت أمها… أمها، أين هي؟
اقتربتْ المعلمة عقاب، وحملتها إلى الإدارة وأخبرت الجميع أنَّها معاقبة؛ لأنها أتت المدرسة عاريةً بينا هي تضم نفسها وتبكي. حملتها المعلمة عقاب، وعلَّقتها على الصبورة، وأخبرت الجميع أنَّها معاقبة؛ لأنها غشاشة، ولأنها تلعب مع الأولاد، ولأنها متسخة، ولأنها لا تملك أمًّا.
ولمَّا استيقظتْ أخيرًا، كان العرق يبلل الجزء العلوي من فستانها. ولمَّا جلستْ، شعرتْ بثقل في الجزء السفلي؛ فأدركتْ صامتةً، وعقلها الصارخ يئن ويتلوى، أنها تبوَّلتْ في فراشها! نهضتْ مستثقلةً خاملةً، وغادرتْ الحجرة الصغيرة. رأتْ جدتها تصلي، ولم تدري أيَّ صلاةٍ تلك التي تصليها منتصف الليل! انسلتْ إلى الحمام، وخلعتْ الفستان الثقيل، ورمته في دلوٍ قديم؛ ثم غمرته بالماء. شرعتْ تغتسل بالماء البارد، ثم سحبتْ منشفة جدها غريبة الرائحة وأحاطت نفسها. ركضتْ إلى الحجرة لترتدي ثوبها القديم، ثم ركضتْ مجددًا إلى الحمام وأخرجت الفستان وعصرته. تسللتْ إلى الفناء، ورمت الفستان فوق ماسورة حديدية، ودعت الله ألَّا تعلم جدتها أنها تبوَّلتْ على السرير الجديد في ذلك العمر. ولمَّا عادتْ إلى الداخل، رأت جدتها ترفع فراشها المبلل إلى الحمام؛ فسمعتْ صوت البحر، واستنشقتْ عطر أمها. زحفت قدماها إلى الخارج لتحدق في السماء المظلمة الخالية من الغيوم، بينا يقطر دم الفستان الأحمر المصلوب على الأرض. رنت إليه طويلًا، ثم كررت أنها لم تكن تستحق.
انْتِظَارٌ خَائِب هاجر منصور سراج 24 إبريل، 2025 كنتُ قَلقًا. وطوال الطريق إلى المدينة، أخذ…
أَخْبَرَهَا الظِّلُ هاجر منصور سراج 22 إبريل، 2025 تجهل الفتاة هوية الظل! يخبرها دائمًا أنَّه…
الرواية اليمنية بين الماضي والحاضر هاجر منصور سراج 19 إبريل، 2025 تعد الرواية فنًا إبداعيًا…
أين تختفي الأشياء؟ هاجر منصور سراج 17 إبريل، 2025 أين تمكث الرياح حين لا تهب؟…
هِي خَائِفَة هاجر منصور سراج 15 إبريل، 2025 تخرج العصافير كل يومٍ من مكامنها في…
وَجْهٌ ذَائِب هاجر منصور سراج 12 إبريل، 2025 تبدو دائمًا كأنها تراعي طفلة نائمة. تتحرك…