هاجر منصور سراج
19 إبريل، 2025
تعد الرواية فنًا إبداعيًا خاصًا ومميزًا، فهي فن يمتص الخصائص والميزات الخاصة بالفنون النثرية الأخرى كأدب الرسائل، وأدب الرحلة، وأدب السيرة؛ ما يجعلها فنًّا دائم الارتقاء، إضافةً إلى كونها أدبًا إبداعيًا إنسانيًا مشاعًا، فهي لا تقتصر على مجموعة من الناس، ولا تنحصر في رقعة جغرافية معينة. وتمثل الرواية نوعًا من الذاكرة الجمعية لكل رقعة جغرافية خاصة؛ إذ تحفظ الثقافة، والتاريخ، والأيديولوجيا، والممارسات اليومية الخاصة. كما أصبحت الرواية أسطورة الحاضر؛ إذ كانت الأسطورة في الماضي توفِّر فضاء ميتافيزيقيا يلجأ إليه الناس للتخفيف من جمود الواقع وقساوته، فيتمتعون بتصور عوالم أخرى، وأشخاص آخرين، وأحداث بطولية. والرواية الآن تضطلع بهذا الدور، وتستند في هذا إلى المخيلة. فالرواية هي نتاج المخيلة الخاصة بالأديب، ويسهم في إنتاجها الواقع حوله، وثقافته الخاصة، وحالته النفسية (الدليمي، 2018).
ولا توفِّر الرواية المتعة المحضة فحسب، بل تساعد في إقامة التوازن النفسي داخل الفرد نتيجةً لقراءته حيواتٍ أخرى، وهذا انطلاقًا من مبدأ (من رأى مصيبة غيره، هانت مصيبته)، وهو الأمر الذي أشار إليه أرسطو بـالكاترسيس (التطهير) الناتج عن عاطفتي الشفقة والخوف اللتين تولدهما التراجيديا (الماضي، 1993). فالرواية بحسب هذا علاج، لا سيما في حالات خاصة مثل الاكتئاب ثنائي القطب (الدليمي، 2018). كما تعد الرواية معلمًا حضاريًا وثقافيًا، يتلقى فيها القراء من الأدباء ثقافتهم الواسعة؛ بيد أنَّ هذا لا يصدق دائمًا؛ إذ تصدر روايات كثيرة لا أثر فيها لثقافة الأديب سواء على مستوى اللغة، أو على مستوى المعارف الأخرى، فتظهر الرواية محض أحداث قاصرة السرد. ونحن لا نقصد هذا النوع من الروايات في حديثنا عن هذه الميزات؛ لأنَّ لكل فنٍ نماذج جيدة وأخرى رديئة قد لا تمثله أعمال البعض!
جاء في لسان العرب في مادة (ر و ى)، رَوِيَ من الماء، والراوية المزادة فيها الماء، وقد يطلق على البعير راوية على تسمية الشيء باسم غيره لقربه منه، وتطلق كلمة راوية على الرجل المستقي. ويقال رويتُ على أهلي: أي أتيتهم بالماء. وتَرْوي معناه تستقي، ويقال رَوى معناه استقى. ويقال راوية إذا كثرت روايته، ويقال: رويتُ الحديث والشعر رِوايةً، فأنا راوٍ. في الماء والشعر، من قومٍ رواه.
إذن، تطلق روى على كل ما يتصل بالماء من نقله، وتخزينه، وسقايته؛ ثم توسعت دلالة الكلمة فأطلقت على ناقل الشعر إذ يتزوَّد بالشعر ويروي به القوم؛ وهم في هذا قد وسَّعوا دلالة الكلمة للتشابه بين الارتواء المادي المتمثل في سقي العطشان، وبين الارتواء المعنوي المتمثل في التلذذ بسماع الشعر؛ فالارتواء هنا للجسم والروح (مرتاض، 1998).
وفي المعاجم الحديثة، جاء في المعجم الأفضل: روى الزرع سقاه، وروى يروي، رِواية، فهو راوٍ. وروى الحديث أي نقله وحمله على ذكره. وروى الرواية: قصَّها. وهم رواة الأحاديث، ويروى أنْ: أي يحكى أن. وروى ولده الحديثَ أو الشعر: أي حمَّله وشجعه على روايته (عمر، 2008).
ولم يطلق الأدباء العرب على جنس الرواية الحالية لفظ رواية أوَّل الأمر، بل كانوا يطلقون عليها (رواية قصصية)، واختصت لفظة الرواية بالمسرحية؛ ثم ما لبثت المسرحية أن اتخذت لها هذا المصطلح، واختصت الرواية بمصطلحها هذا، دون تحديد للشخص الذي خصص الفنين الأدبيين بمصطلحيهما الحاليين. والرواية اصطلاحًا جنس أدبي راق، ذو بنية شديدة التعقيد، متراكبة التشكيل؛ وتتضافر في الرواية عددٌ من السمات التي تبرزه في النهاية شكلًا أدبيًا جميلًا (مرتاض، 1998).
وتعرف الرواية أيضًا أنَّها فن نثري، تخيلي، طويل نسبيًا بالقياس إلى فن القصة القصيرة. وهو فن يعكس عالمًا من الأحداث والعلاقات الواسعة والمغامرات المثيرة والغامضة أيضًا. وفي الرواية تتداخل ثقافات مختلفة. ولهذا الفن قابلية دمج كافة الأجناس التعبيرية الأدبية وغيرها. ويختلف مفهوم الرواية باختلاف المناهج التي تعالج الرواية في تحليلها (يوسف، 2015).
يعود أصل مصطلح (Novel) إلى جيوفاني بوكاشيو (1313-1375) الذي نشر رواية (ديكاميرون). وقد حكى فيها أنَّ الطاعون أصاب مدينة فلورنسا، فهرب منها سبع فتيات وثلاثة فتيان ومكثوا في الريف. وفي الطريق، أخذ كل منهم يحكي قصةً حتى تكوَّنت مائة قصة. وكان لهذه الرواية عنوان فرعي هو (نوفيلا ستوريا) (novellus historia)، ويقصد بها (قصة جديدة)؛ إذ تعني كلمة (novelty) في الإيطالية: شيئًا جديدًا؛ ثم أصبحت (novel) في الإنجليزية تعني (رواية). والفريد في رواية بوكاشيو هذه أنَّها كتبت نثرًا، وأنَّها دارت حول أشخاصٍ عاديين، وأنَّ أحداثها قامت في زمنه؛ بينا كان المعهود أن تكتب القصص شعرًا، وأن تدور أحداثها حول ملوك، أو أمراء، أو أبطال؛ وأن تدور أحداثها في الماضي. وهذا الاختلاف جعل منها شيئًا فريدًا يُقَلَّد (صغير، 2004).
ورغم أنَّ هذا هو أوَّل ظهور للمصطلح، إلَّا أنَّ معظم النقاد يربطون الرواية بالنهضة الأوروبية التي هدمت مركزية الاقطاعية؛ إذ أنَّ الرواية تتناول الإنسان العادي في مظاهر مختلفة ليس فيها سمات شخصية البطل الفارس. وأغلب النقاد يعدون رواية دون كيشوت أوَّل رواية بحسب المفهوم الحديث، وهي تتحدث عن شخصٍ عاديٍّ شَغُفَ بقصص الفرسان، فقرر أن يرتدي زي الفرسان ويخرج ليقاتل، فكان أن وجد أنَّ عصر الفرسان قد انتهى. وهذه الرواية ساخرة من رواية الفروسية التي كانت سائدةً آنذاك، ومن والرواية الباروكية، التي يرها ألبيريس «حكاية متخيلة حتى التقزز، ومغرية وخيالية حتى التخمة» (ألبيريس، 1982، ص19).
أوَّل قضية يتناولها النقاد العرب، عند الحديث عن الرواية العربية، هي قضية التأصيل: هل الفن الروائي قديم أم محدث؟ وفي هذا قولان، فثمة من يرى أنَّ الرواية فن عربي أصيل، ومن هؤلاء فاروق خورشيد الذي يرى أنَّ الأدب العربي عرف القصة منذ العصر الجاهلي، وأنَّ الجاهليين كانوا شغوفين بحكايات أجدادهم، وفرسانهم، وملوكهم، وشعرائهم. كما كان هنالك قصص أخرى، مثل: قصص الأنبياء، وقصص الهوى، وحكايات الخلق. لكنَّ هذا لا يندرج في مقام الرواية؛ بل إنَّها إرث أسطوري وحكايات شعبية، والعرب في هذا شأنهم شأن بقية الأمم في رواية الحكايات والأساطير. أمَّا أصحاب الرأي الثاني، فيرون أن الرواية فن محدث مستورد من الغرب، وأنَّ كل أشكال التعبير النثرية في التراث العربي لا تلتقي بالرواية الحديثة في شيء، ودليلهم أنَّ هذه الأشكال النثرية لم تهيئ لظهور الرواية عربيًا (الشنطي، 2005؛ خورشيد، 1982).
لكنَّ الرواية العربية لم تستورد فنَّ الرواية من أوروبا ليظهر فجأةً فنًّا كامل الصفات؛ بل نمت الرواية واكتملت صفاتها في مراحل معروفة، فبدأت بمرحلة الإرهاص التي اتخذت فيها الرواية طابعًا عربيًا على شكل المقامة. وتفسير هذا أنَّ العرب لمَّا اطلعوا على أدب الآخر حاولوا إيجاد أساس نثري يقفون عليه في تقديمهم هذا الفن السردي الجديد إلى القارئ العربي. وقد تخفَّف الكثير منهم من سجع المقامات، وأسقطوا نمط الحبكة فيها، وتجاوزوها؛ إذ ما كانت بالنسبة إليهم إلَّا مطيَّةً للانتقال إلى فن الرواية. وقد ساهمت الترجمة في انتشار الرواية، وإن كانت البدايات للترجمة قد أخضعت النصوص الأجنبية للثقافة العربية والمصرية تحت ما يسمى بالتعريب والتمصير.
وفي هذه المرحلة، ظهرت الرواية التعليمية والرواية التاريخية، وقد كانت هذه الأخيرة بين الرواية التعليمية ورواية التسلية والترفيه. وسيطرة الرواية التاريخية على هذه المرحلة راجع إلى بنية التفكير التي عجزت عن الفصل بين التاريخ والفن الروائي باعتباره نتاجًا خياليًا بحتًا، فربطتْ هذا الفن الجديد بأحداث تاريخية. وهذه الأحداث فرضت على روايات هذه المرحلة نسقًا معينًا في تسلسل الأحداث، وبناء الشخصيات، والعقدة؛ فكان نتاج هذا بناءً مفككًا لا سيما مع فرض القصة الغرامية في النص (آلن، 1997).
بدأت المرحلة الثانية (مرحلة الريادة) برواية (زينب) لمحمد حسين هيكل عام 1919، وبعضهم يرى أنَّها بدأت برواية (الأجنحة المتكسرة) لجبران خليل جبران في العام نفسه. وهناك آراء كثيرة في تحديد الرواية التي بدأت بها هذه المرحلة؛ لكنها جميعًا تشترك في أنَّ هذه الروايات وفَّرت الحد الأدنى من مقومات الرواية متمثلةً في عناصر الزمان، والمكان، والحدث؛ والابتعاد عن الركة اللغوية، وتجنُّب الأسلوب التقريري، والربط بين الأحداث في شكلٍ منطقي خاضعٍ للتجربة الإنسانية الطبيعية، والبيئة المذكورة، وعنصري الزمان والمكان. كما ناقشت قضايا شريحة اجتماعية خاصة، واستوعبت سماتها الخاصة، فأدَّى هذا الاستيعاب الدقيق إلى إخراج الرواية في شكلٍ فني واعٍ (الشنطي، 2005).
وفي المرحلة الثالثة (مرحلة التطوير والتجديد)، استقرت الرواية على أساس أدبي واضح، فابتعدت عن التاريخ وعن السمة التعليمية. ثم تلت هذه المرحلة (مرحلة التجريب) التي جرَّب فيها الأدباء اتجاهات جديدة بغرض إبداع شيء جديد. وهنا استغلوا الأنماط التراثية والشعبية في الحكي والسرد، لكن هذا الاستغلال جاء مبتكرًا موظَّفًا وليس كما جاء في روايات المرحلة الأولى (الشنطي، 2005).
وهذا التطور في الرواية العربية ينطبق على الرواية اليمنية، فقد مرَّت بمراحل أولى لم تكتمل فيها عناصر الرواية، ثم رسخت على مستوى معين، ثم أخذت تتطور انطلاقًا منه.
تأخَّر ظهور الرواية اليمنية بالنسبة للرواية في الأقطار العربية الأخرى، وهذا راجع لثلاثة أسباب ترتبط كلّها بالحكم الإمامي الذي فرض على الشعب اليمني عزلةً حرمته من حقه في حيازة المعرفة والتعليم المنهجي. وهذا الوضع السيء هو ما قاد إلى الثورة اليمنية ووجَّه مثقَّفيها إلى العناية بالشعر الحماسي الثائر، والمقالات السياسية، ومقالات الفكر الإسلامي، فلم تحظى الرواية بعنايتهم إلَّا ما كان من رواية (مأساة واق الواق) للزبيري؛ وقد كتبها في ستينات القرن العشرين. وفي وضع الثورة هذا، لم يجد المثقفون اليمنيون استقرارًا نفسيًا أو اجتماعيًا يمكنهم من التفرغ لكتابة الرواية؛ إذ أنَّ الرواية تحتاج دائمًا إلى هدوء نفسي واجتماعي كي يستطيع الكاتب الإبداع. وهذا الاستقرار على المستويين النفسي والاجتماعي لم يكن موجودًا في اليمن لأعوامٍ طويلة (الأهدل، 2004)، وأضيف إلى هذا أنَّ الشعب اليمني آنذاك لم يكن مؤهلًا لتلقي الفن الروائي؛ إذ كانت الأميَّة سائدة، وكان العلم منحصرًا في مجموعةٍ قليلة من الناس، ومن عرف منهم الكتابة والقراءة، لم يكن يملك وقتًا أو اهتمامًا بقراءة شيء لا يعينه في كسب عيشه؛ فكان الفن الشعري هو الوسيلة الأولى التي استخدمها الثوار في ثورتهم لإثارة حماسة المتلقين وتحفيزهم.
ويمكن أن نقسم الرواية اليمنية إلى ثلاثة مراحل: رواية البدايات، والرواية الواقعية، والرواية الحديثة. وروايات البدايات شأنها شأن البدايات عربيًا، إذ جاءت روايات تعليمية زاخرةً بالمواعظ والنصائح، كما لم يُقصد من تأليفها إبداع نصٍ سردي حديث؛ بل جاءتْ وسيلةً لتمرير خطابٍ فكري. وأمَّا روايات المرحلة الواقعية، فقد ارتبطت بالثورة. ويرى بعض النقاد أنَّ الرواية اليمنية ترتبط بالثورة، أمَّا الروايات الصادرة قبل ذلك، فمحض محاولات فرديةٍ تأثَّر أصحابها بالآخر، كما لم يقصد منها كتابة رواية. فالثورة هي الحدث الذي قلب حال اليمن، ومكَّن اليمنيين من الحصول على تعليمٍ ممنهج وسَّع مداركهم ورؤاهم، ودفعهم نحو التأليف الروائي. وتتميز روايات هذه المرحلة بالمفارقة بين زمن الرواية وزمن الواقع؛ إذ تعالج قضية الشعب اليمني أثناء الحكم الإمامي؛ فنقلتْ بهذا صورة الواقع آنذاك. وأمَّا روايات المرحلة الثالثة، فتبرز في مواضيعها وقضاياها الحرية السياسية، كما تبرز فيها وسائل وتقنيات السرد الحديثة التي تنبئ عن انفتاح الرواية العربية على الأعمال السردية العالمية.
صدرت أوَّل رواية يمنية (سعيد) لمحمد علي لقمان عام 1939م، وهذا ما اتَّفق عليه معظم النقاد؛ بينا رأى البعض أنَّ أوَّل رواية هي رواية (فتاة قاروت) لأحمد عبد الله السقاف التي صدرت عام 1927م تقريبًا. ومن يعارض إقحام هذه الرواية ضمن الروايات اليمنية يقول إنَّها إنما كتبت للجمهور الإندونيسي، وعالجت قضية الهوية القومية والإسلامية ضد الاستعمار الهولندي والمؤسسات التبشيرية في إندونيسيا. إضافةً إلى أنَّ اليمنيين أنفسهم لم يسمعوا عن هذا الرواية فضلًا عن أن يقرأوها. ويرى البعض أنَّها رواية يمنية لأن الكاتب يمني ولأنَّ الرواية تصوُّر الوضع الاجتماعي والثقافي للمهاجرين اليمنيين في إندونيسيا ومقاومتهم المستعمر الهولندي (باقيس، 2014).
وأرى أنَّ رواية (فتاة قاروت) أحقُّ بأن تصنَّف ضمن الأدب الإندونيسي على أن تصنَّف ضمن الأدب العربي للأسباب عينها التي ذكرها النقاد، إضافةً إلى أنَّها لا تتناسب مع واقع القارئ اليمني أثناء صدورها أو بعده. وأعتقد أنَّ ما يعطي الرواية هويَّةً ليس جنسيةً الأديب أو اللغة التي كتبت الرواية بها؛ بل القضية التي عُولجت في النص الأدبي، وأسلوب المعالجة الذي ينبئ عن بنية الكاتب الفكرية.
وموضوع هذه الرواية مثل مواضيع روايات مرحلة البدايات عربيًا؛ فهي تهدف إلى الإصلاح الاجتماعي أكثر من كونها تهدف إلى إبداع فنٍ سردي خاص. وجاءت هذه الرواية من ضمن الوسائل التي اتبعها للترويج للأهداف التعليمية والإصلاحية، والأخلاقية، ومواجهة المستعمر؛ فجاءتْ زاخرة بالنصائح والمواعظ، والمضامين الأخلاقية، والمعلومات العلمية. كما قسِّمت فيها الشخصيات إلى شريرة وخيِّرة، ودارت القصة كلها حول قضية واحدة. وهذه السمات كلّها تظهر في روايات البدايات. إضافةً إلى ما كُتِب على غلاف الرواية من وصف: (رواية غرامية انتقادية تتضمن انتقاد بعض عادات مهاجري العرب في جاوة، ووصف بلاد السند وعادات أهلها بأسلوب شيّق)، وهو توصيف اعتمده الكتاب في مرحلة البدايات.
والرواية اليمنية الأولى، حسب رأي معظم النقاد، نتاج عقلية مصلح اجتماعي؛ إذ كان محمد علي لقمان محاميًا، وصحفيا، ومصلحًا اجتماعيًا، نادى إلى التنوير في اليمن، ونشر عدَّة مقالات داعيًا فيها إلى النهضة العربية. وقد تأثَّر بالفكر الغربي أثناء دراسته في بريطانيا، فكان أن شعر بالهوة بين حال الغرب وحال العرب، فكرَّس كتاباته لهذا الغرض. ومن هنا جاءت روايته (سعيد) روايةً تعليمية إصلاحيةً، دعا فيها إلى النهضة، وشخَّص فيها أسباب التخلّف. كما قام لقمان، في سعيه إلى تنوير ونشر الثقافة وترسيخ الأخلاق، بتعريب رواية هندية، ونشرها تحت عنوان (كملاديفي)، وأسس صحيفة (فتاة الجزيرة) التي كان لها دور كبيرٌ في التنوير وتأسيس الشعور القومي وترسيخه. ورواية سعيد، شأنها شأن رواية السقاف، وسيلة من الوسائل للتعبير عن قضية اجتماعية، وأخلاقية، واصطلاحية؛ فجاءت زاخرة بالنصائح والمواعظ. وقد حدَّد لقمان غرض روايته كما فعل السقاف أيضًا، فكتب على غلافها: (رواية أدبية أخلاقية تاريخية)، وذكر أنَّ أحداثها وقعت في مدينة عدن. ولعل لقمان قد اتخذ الرواية وسيلةً للتعبير عن أفكاره الثورية الإصلاحية هربًا من غضب السلطات البريطانية في عدن.
ومن روايات هذه المرحلة: (يوميات مبرشت) للطيب أرسلان 1948، (حصان العربة) لعلي محمد عبده 1959، (مأساة واق الواق) لمحمد محمود الزبيري 1960، (مذكرات عامل) لعلي محمد عبده 1966.
الرواية الواقعية نوعان: الواقعية النقدية والواقعية الاشتراكية. والواقعية الانتقادية، بحسب تعبير إرنست فيشر، تتضمن نقدًا للواقع الاجتماعي المحيط بالفنان، في حين تتضمن الواقعية الاشتراكية الموافقة الأساسية من جانب الكاتب أو الفنان على أهداف الطبقات العاملة والعالم الاشتراكي الناهض. والفارق بين تين الواقعيتين يكمن في الموقف (فيشر،1998).
وتتجلى الواقعية النقدية في أعمال محمد عبد الولي القصصية والروائية، وله روايتان فقط، هما: (يموتون غرباء) 1971، و(صنعاء مدينة مفتوحة) 1978، وقد صوَّر فيهما بؤس الواقع في اليمن، وصوَّر تفاصيل أفكار أبطاله السلبيين والأحداث التي خاضوها تصويرًا عميقًا يزخر بالسلبية والتشاؤمية، وهو ما يعد من أبرز سمات الواقعية النقدية.
وثمة روايات أخرى تنتمي للواقعية النقدية، مثل: (قرية البتول) لمحمد حنيبر 1979، (المُبَشِّع) لأحمد قائد بركات 1993، (زهرة البن) لعلي أحمد زيد 1998. وتدور أحداث رواية قرية البتول في الريف اليمني قبل الثورة والاستقلال، وتعرض شخصيات سلبية متشائمة. وتعرض روايتي المبشع وزهرة البن حياة الريف أيضًا في فترة حكم الإمامة، واستبداد عسكر الإمام على القرويين. وهذه الروايات كلُّها تقدِّم الواقع المأساوي كما هو، ولا تقدِّم وسيلةً لعلاجه أو تعديله، بل تكتفي بالتشكي والتبرم، ثم الهرب من المشاكل بالهجرة من اليمن.
وأمَّا الواقعية الاشتراكية، فتتمثل في روايات: (مرتفعات ردفان) لحسين صالح مسيبلي 1976، و(طريق الغيوم) لحسين سالم باصديق 1977، و(القرية التي تحلم) لأحمد عبد الله فدعق 1989، ، وروايات أخرى صدرت في جنوب اليمن نتيجةً للفكر الاشتراكي الذي ساد في فترة السبعينيات. والواقعية الاشتراكية تفرض على الأديب إنتاج أدب هادف يتحدث فيه عن مشاكل المجتمع وهمومه متزودًا بقدرٍ كافٍ من التفاؤل الذي يدفعه إلى الأمام دومًا وإلى إيجاد حلولٍ لمشاكله. فتتميز روايات الواقعية الاشتراكية بأنها نقيضة الواقعية النقدية؛ فهي التفاؤل في مقابل التشاؤم، وهي الإيجابية في مقابل السلبية، وهي المواجهة في مقابل الهرب.
وقد اتخذت روايات الواقعية الاشتراكية قضية صراع الطبقات موضوعًا، وجعلت الأحداث تدور حول عنصر المقاومة والكفاح لتحقيق الحلم وبناء مستقبل أفضل. وفي هذه الروايات، يبرز المجتمع (سكان القرية) مساندًا للبطل، فهم يتعاونون معًا حتى ليشكلون عنصرًا واحدًا غير قابل للتفكك في مواجهة ابتزاز وجشع الملاك. كما يغلب على هذه الروايات «النزعة الرومانتيكية الثورية الحالمة بمستقبل واعد، والاستعانة بجملة من المفارقات والمبالغات في تغليب جوانب الخير التي يصعب تحققها على أرض الواقع» (باقيس، 2014، ص57).
وتتميز هذه الروايات بعلو النبرة الخطابية الانفعالية في السرد، الصادرة عن الرؤية الأيديولوجية الاشتراكية. وتنتهي الروايات دائمًا بانتصار الخير، ما يؤدي وظيفة الأدب من وجهة نظر الواقعية الاشتراكية التي تأكد على النموذج الإيجابية وعلى المواجهة، وعلى الالتزام بالتعبير عن قضايا المجتمع بنظرة إيجابية.
ومن السمات السردية لروايات هذه المرحلة: التطور على مستوى بنية الشكل الروائي، والتركيب الحكائي الثلاثي، وبروز ثنائي السارد والمتلقي، وتمحور أحداث الروايات في زمنٍ سابق (عهد الإمام أو الاستعمار)، وتناول موضوعات تقليدية ومتكررة، مثل الهجرة إلى الخارج وقضايا الريف. ومن روايات هذه المرحلة أيضًا: (يموتون غرباء)، (قرية البتول)، (الميناء القديم) لمحمد صغيري 1978، (الرهينة) لزيد مطيع دماج 1984، (السمَّار الثلاثة) لسعيد عولقي 1989.
تبدأ هذه المرحلة في التسعينيات؛ إذ اتضح في النصوص الروائية وعي تامٌ بطبيعة النص الروائي وما يجب أن يكون عليه، فأصبحت نصوص هذه الفترة نتاج الخيال والخبرة والثقافة. وثقافة أدباء هذه الرواية يتضح في تعالق نصوصهم بنصوصٍ أخرى عربية وعالمية، روائية وغير روائية. ويمكننا أن نحدد بداية هذه المرحلة برواية (الملكة المغدورة) للكاتب حبيب عبد الرب سروري، عام 1999، ورواية (إنَّه جسدي) لنبيلة الزبير، عام 2000.
ومجموع الروايات اليمنية حتى عام 2011، بحسب إبراهيم أبو طالب، مائة وتسعة وأربعون رواية، نشرت منها خمسون رواية فقط قبل عام 1999، على امتداد عامي (1939 – 1998). ومن هنا، نلاحظ أنَّ الإنتاج الروائي في هذه المرحلة قد تضاعف وانتشر، وأصبح لدينا روايات تُنشر كل عام؛ في حين كان يمضي، في السابق، نحو ثلاثة أعوام دون أي إنتاج روائي. ولعل السبب في هذا يرجع إلى عوامل تاريخية، وسياسية، وثقافية؛ إذ أنَّ جيل هذا العصر حظي بثقافة وعلمٍ ممنهج، كما ضمنت الجمهورية الجديدة حرية التعبير والنشر، وكانت أحداث الثورة قد مضت وعقبها الهدوء الذي وفَّر جوًّا نفسيًا مناسبًا للكتابة والإبداع.
من سمات هذه المرحلة تزايد الأعمال الروائية، والتحول عن الموضوعات التقليدية إلى موضوعات من الواقع المعاصر، مثل: حياة المهمشين، الحياة النسوية، العلاقة بالآخر. كما اتضحت العناية بالفرد أكثر من المجتمع، واستخدام ضمير المتكلم في السرد حتى لتقترب الرواية من السيرة الذاتية، والغوص في تفاصيل الحياة. كما تعددت تقنيات السرد في هذه المرحلة، وسلك الأدباء باب التجريب في السرد إضافةً إلى ما كان من تعالق النصوص السردية بأخرى تراثية، ودينية، وأسطورية.
يطلق مصطلح (theme) الثيم على «صورة ملحة ومتفردة، نجدها في عمل كل كاتب معدلة بحسب منطق التماثل» (علوش، 1985، ص56)، ويترجم إلى: «الموضوع، أو الغرض، أو القضية» (وهبة،1974، ص568). وقد تناولت الرواية اليمنية قضايا المجتمع اليمني في المراحل الثلاث كلها، ويمكن تصنيف المواضيع والقضايا التي تناولتها تحت ثيمات معينة، هي: الريف والمدينة، المناضل الدستوري، الهجرة، القمع والإرهاب.
(أ) ثمية الريف والمدينة
تعد ثيمة الريف من أوَّل ما تناوله الأدباء اليمنين ليس لأنَّ الريف قد ألهم مخيلتهم السردية كما هو الحال مع الأدباء العرب الذين انطلقوا في هذا من رؤية رومانسية في تأمل الطبيعة، والتغلغل في المجتمع الريفي البسيط، واستغوار نفسية الريفي البسيط؛ بل لإنهم انطلقوا في هذا من واقعهم الذي عاشوه وساهم في تكوين شخصياتهم، فجاءت روايتهم أقرب إلى السيرة الذاتية؛ مثل ما كان في رواية (طريق الغيوم).
وقد ارتبط الريف في الروايات اليمنية بالألم، والعذاب، والظلم، والجهل؛ فهو لا يظهر في الروايات إلَّا مرتبطًا بسيادة الحكم الإمامي في الشمال، والأنجلوسلاطيني في الجنوب، فأدَّى هذا الحضور الكثيف للتاريخ والسياسية إلى غياب النظرة الرومانسية إلى الطبيعة؛ بل إلى سيادة نظرة تشاؤمية قاتمة بثَّتها الشخصيات السوداوية المتشائمة. ولعل الأدباء اليمنيين تخيَّروا تصوير التراث القروي في رواياتهم انطلاقًا من رغبتهم في سرد سيرةٍ ذاتية أوَّلًا، ثم رغبةً في إبراز البيئة المتخلفة التي عاشوا فيها، والتي تسيطر على العقول وتحصر الناس في إطار الجهل والخرافة المتمثل في مزارات الأولياء والصالحين، والإيمان بهم، والاعتقاد بالجن والشعوذة. ويظهر هذا في روايات: (المبشع)، (القرية التي تحلم)، (هموم الجد قوسم) لأحمد مثنى 1988. وقد احتفت هذه الروايات وروايات أخرى بالموروث الشعبي المتمثل في الحكايات الشعبية، والأغاني الشعبية، والأمثال، واللهجة العامية.
أمَّا ثيمة المدينة، في مقابل الريف، فقد تناولها الأدباء بشكلٍ أقل، وفي روايات معدودة. وتُبْرِز الروايات التي عالجت هذه القضية أزمة الشخصية المهاجرة، وصراع الهوية إثر تلقيها للواقع الحضاري الجديد (باقيس، 2014). وقد تمَّ التعبير عن هذه القضية في رواية البدايات؛ إذ اتخذ لقمان والطيِّب أرسلان المدينة موضوعًا لرصد التغيرات الحاصلة فيها على مستوياتٍ عدة: السياسي، والاقتصادي، والاجتماعي، والأخلاقي. ورؤية المدينة، في الروايات، تتجلى على مستويين: الأوَّل النفور، والثاني الانشغال بالأمور التافهة عوضًا عن الأمور المهمة. والمستوى الأوَّل يبرز في مواقف الريفيين عند ذهابهم إلى المدينة؛ إذ يبهرهم كل شيء فيها، ثم ما يلبث هذا الانبهار أن يستحيل نفورًا واشمئزازًا، فيرون المدينة محض وحش يصهر الجميع ويمزق روابطهم. ومن الروايات التي ذكرت هذا الانبهار: صنعاء مدينة مفتوحة، زهرة البن، قرية البتول.
وفي المستوى الثاني تبرز رؤية المدينة باعتبارها فضاءً تتجلى فيه الملامح الثقافية، والاقتصادية، والاجتماعية، والسياسية؛ بيد أنَّ هذا الفضاء المزدحم بالحياة يشغل الناس عن قضايا مهمة كقضية الوطن، والأخلاق، والدين، فينصرف الناس إلى الاستغراق في الأمور التافهة. ويتجلى هذا في رواية (سعيد) التي وصفت التحولات الاجتماعية والأخلاقية، ورواية (يوميات مبرشت) التي رصدت التحولات الاقتصادية وأثر ذلك على المواطنين الأصليين.
ورصدت رواية (الملكة المغدورة) التغيرات على المستوى السياسي التاريخي، والأثر السيء الذي تركته هذه التغيرات على أحد أحياء المدينة، كما صوَّرت الوضع الاجتماعي لبيوت المدينة، وعلاقات الناس ببعضهم البعض، وعلاقتهم بالمكان الذي يعيشون فيه حتى قاربت الرواية أن تكون عرضًا لحياة الناس اليومية.
(ب) ثيمة المناضل الدستوري
هيمن التاريخ السياسي على الروايات اليمنية منذ الثلاثينيات وحتى التسعينيات. وبين الرواية والتاريخ علاقة مترابطة ارتباطًا عضويًا، بحسب أصحاب النزعة التاريخية والاتجاه الاجتماعي في الأدب. ويرى البعض أنَّ الرواية تاريخ الحاضر، وأنَّ التاريخ رواية ما وقع، والرواية تاريخ ما كان يمكن أن يقع؛ لأنَّ الرواية تتخذ شخصياتها، وزمانها، ومكانها من التاريخ (مرتاض، 1998). وآراء هؤلاء لا تعنينا هنا، بل يعنينا حقيقة أنَّ الروائيين اتخذوا التاريخ مصدرًا لرواياتهم؛ لكننا لا نستطيع أنْ نصنِّف كل رواياتهم رواياتٍ تاريخيةً، رغم ما يقال من أنَّ الفاصل بين الرواية التاريخية وغيرها هو المفارقة بين زمن الكاتب وزمن الأحداث في الرواية.
ويفرِّق سعيد يقطين بين نوعين من الروايات القائمة على التاريخ: روايات تاريخية، وروايات تخييل تاريخي. ويتم التمييز بين ذين النوعين بناء على ثلاثة أسس: طبيعة المادة، والمرجعية، وقانون الكتابة. فالروايات التاريخية تستقي مادتها من التاريخ، على المستويات كلها: الشخصيات، الأحداث، الأماكن. في حين تستقي روايات التخييل التاريخي شخصياتها من المخيلة، وتعالج قضيةً (ممكنة الوقوع) في إطارٍ زماني ومكاني تاريخيين. والرواية التاريخية تفرض على القارئ تقبُّل المعطيات المذكورة في النص؛ بينا تضع رواية التخييل التاريخي القارئ في موقف الاحتمال فقط، وتلغي لديه قبول وقوع الأحداث المذكورة. والأساس الثاني هو المرجعية، فالرواية التاريخية يمكن التأكد من صحة الأحداث الواردة فيها في كتب التاريخ، في حين لا توجد مرجعية لروايات التخييل التاريخي. والأساس الثالث هو قانون الكتابة، فالروايات التاريخية تفرض قانون المطابقة، بينا تعلن روايات التخييل التاريخي قانون المشابهة والصدفة، وقد تعلن ذلك في عتبة الرواية (يقطين، 2012).
وغرضنا من التمييز بين هذين النوعين هو التمهيد لقضية أنَّ ثيمة المناضل الدستوري في الروايات اليمنية حضرت على مستويين: شخصية واقعية، وشخصية متخيَّلة. ومن الروايات التي جسَّدت هذه الثيمة: (الميناء القديم) لمحمود صغيري 1978، و(مصارعة الموت) لعبد الرحيم السبلاني 1970، و(زهرة البن) لعلي محمد زيد 1998. ورواية الميناء القديم رواية تخييل تاريخي، فالزمان والمكان تاريخيين، والشخصيَّات متخيَّلةٌ وُظِّفتْ لتصوير مأساة أحرار ثورة 1948. واعتمدت رواية (مصارعة الموت) رصد الأحداث وتسجيل الوقائع حتى أوشكت الرواية أن تستحيل تاريخًا بحتًا نقضه الكاتب بإعلانٍ على غلافها: (رواية تاريخية أخلاقية اجتماعية أدبية سياسية تدور أحداثها في اليمن من سنة 1956 إلى سنة 1962). وهو بهذا الإعلان قد قدَّم ميثاقًا – بحسب يقطين – لتصنيف عمله رواية، بينا يمكننا أنْ نصنِّف الرواية، بحسب محتواها، روايةً تاريخية. وتناولت رواية (زهرة البن) أحداثًا متخيلةً في خلفيةٍ تاريخية، وكذلك غيرها من روايات التسعينيات التي تصنَّف روايات تخييل تاريخي (باقيس، 2014).
واستدعاء شخصية المناضل الدستوري في هذه الروايات يندرج ضمن استلهام الموروث. ويختلف استدعاء الشخصيات من روايةٍ إلى أخرى، فقد يحضر الاسم فقط، وقد يُذكر الحدث المرتبط بالشخصية، وقد تُذكر أقوالها. ونعني بشخصية المناضل الدستوري هنا، الثوار الذين شاركوا في ثورة 1948، مثل: الزبيري، الموشكي، نعمان. وكان يمكن أن يتم استدعاء هذه الشخصيات بشكل أكثر فعاليةً؛ لكنَّ الأدباء اليمنيين فضَّلوا هذا الاستدعاء الفعال في الشعر أكثر من السرد.
ومن الروايات التي استدعت شخصية المناضل السياسي استدعاءً بارزًا رواية (مأساة واق الواق). ورغم أنَّ هذه الرواية تعدُّ من ضمن روايات البدايات التي سخَّرها أصحابها للتعبير عن رؤاهم وأفكارهم، جاء التخييل فيها عاليًا، وكان الدافع إلى هذا التخييل هو رغبة الكاتب في استعادة ذكرى رفاقه الثوَّار. فحضرت شخصية المناضل الدستوري، في هذه الرواية، حضورًا واضحًا لا رمزيًا من خلال كلامٍ أو تذكُّر.
وفي رواية (زهرة البن)، يستدعي الكاتب شخصية المناضل الدستوري في أسلوبٍ رمزي؛ إذ رمزت شخصيتا الزبيري ونعمان إلى التحرر من الاستبداد والقهر. وكان لهذا الحضور الرمزي أثره على عقلية البطل في الرواية ونفسيته، فالزبيري ونعمان يتمثلان في وعي البطل دائمًا رمزًَا لاستمرار النضال والكفاح.
وفي رواية (الميناء القديم) حضرت شخصية تخييلية لشخصية المناضل الدستوري الغرض منها إظهار القمع الذي تعرَّض له المناضلون الدستوريون، وإبراز الرسالة الصحيحة التي جاء بها الدستوريون لنقض ما ادعاه الإمام ونشره بين عوام الناس من أنَّ الدستوريين ينادون باختصار القرآن وغير هذا من التهم المرتبطة بالجانب الديني، بغرض إثارة حمية الشعب وغيرتهم على دينهم. والشخصيات المتخيلة أبرزت دور المناضلين في توعية الناس، وأخلاق المناضلين الدستوريين التي تمثَّلت في تعليم القرآن، وتفقيه الناس، وحسن السلوك. وقد اختيرت أسماء الشخصيات المتخيلة بحيث تنبئ بحقيقة نيتهم الحسنة وهدفهم الصادق.
(ج) ثيمة الهجرة
تُشكِّل الهجرة حدثًا أساسيًا في حياة اليمنيين؛ فهي طريقهم للبحث عن الرزق منذ أقدم العصور. واليمنيون حتى اليوم لا يزالون يسلكون طريق الهجرة إمَّا نحو شرق آسيا (ماليزيا، الهند، سنغافورة، إندونيسيا…)، أو نحو أفريقيا (جيبوتي، أرتيريا، كينيا، الصومال…)، أو نحو دول الخليج العربي، أو نحو الولايات المتحدة الأمريكية. وقد حضرت ثيمة الهجرة في الروايات اليمنية على مستوياتٍ ثلاثة.
في المستوى الأوَّل، وردت في الروايات إشارات إلى قضية الهجرة بوصفها قدر اليمنيين، مثل: السمار الثلاثة، والملكة المغدورة. وفي المستوى الثاني، تمَّ تناول قضية الهجرة بشكل أكثر عمقًا؛ وقد تمَّ ذلك من خلال التركيز على شخصية العائد من المهجر، وأثر الهجرة ومأساتها في نفسه. وهذه الروايات مليئة بالمشاعر الإنسانية المتضاربة أثناء مواجهة الآخر، وبعد العودة من المهجر. ومن روايات هذا المستوى: (الميناء القديم)، (صنعاء مدينة مفتوحة)، (ربيع الجبال) لمحمد مثنى 1983. وفي المستوى الثالث، ركَّزت الروايات على ثيمة الهجرة تركيزًا كليًّا؛ فدارت أحداث الرواية في المهجر مصوِّرةً آلام المهاجرين ومأساتهم. ومن روايات هذا المستوى: (يموتون غرباء)، (طيف ولاية) لعزيزة عبد الله 1998، (رجال الثلج) لعبد الناصر مجلي 2000.
في رواية (صنعاء مدينة مفتوحة) قدَّمَ عبد الولي صورةً مكثَّفةً لآلام الغربة عبر شخصية المهاجر العائد التي تمثِّل تجربةً إنسانيةً غنيَّةً. وفي روايتي (الميناء القديم) و(ربيع الجبال) حضرت صورة هذا المهاجر المليء بالحكايات والمغامرات، والذي لا يزال شوقٌ يتملكه للذهاب في مغامرة وهجرة جديدة، رغم كل الحنين الذي أعاده إلى بلاده. وهذه الروايات تعرض لقضية الهجرة على المستوى الثاني الذي يتناول العائدين من الهجرة فقط دون النظرة العميقة إلى ما قاسوه أثناءها، ولا تفصِّل النظر في أسبابهم، فلا يتضح الموقف من الهجرة فيها؛ بل يتضح في روايات المستوى الثالث التي تناولت الأبطال في المهجر، وبيَّنت مواقفهم، وأحلامهم، وأفكارهم، وأسباب هجرتهم السطحية والعميقة. ومن الأسباب التي مثَّلها الكاتب في رواية (يموتون غرباء): النزاعات السياسية، والخصومات الأهلية على الأرض، والنزاعات القبلية. وتقع تحت هذه الأسباب السطحية أسبابٌ عميقة عائدة إلى شخصيات المهاجرين أنفسهم؛ فمنهم من دفعته رغبته في بناء منزلٍ يتباهى به، ومنهم من أُجبر على الهجرة هربًا من قمع الإمام، ثم ما لبث أن استطاب بلد المهجر ومكث فيه مكتفيًا بدعم الثوار ماديًّا حفاظًا، ومنهم رجل الدين الذي رأى في أبناء الجالية اليمنية جماعةً يمكنه تزعمها دينيًا. وقد انتقد الكاتب النماذج الثلاثة جميعها، وكرَّس الرواية للتعبير عن موقفه من الهجرة بوصفها خطيئة تتجلى آثارها في المولدين الذين لا يجدون هويةً ينتسبون إليها.
وقد تحدَّثت رواية (يموتون غرباء) عن الهجرة إلى أفريقيا، بينا تناولت روايتا (رجال الثلج) و(طيف ولاية) موضوع الهجرة إلى الغرب، وعلاقة اليمني بالآخر، وهو ما صنَّفه باقيس تحت عنوان (العلاقة بالغرب). ويمكننا أن نضع موضوع العلاقة بالآخر ثيمةً مستقلَّةً؛ إذ يكتشف الإنسان نفسه جيِّدًا أثناء علاقته بالآخر، وهذا ما ظهر في روايات المستوى الثالث؛ بينا عالجت روايات المستوى الأوَّل قضية الهجرة من خلال التأمُّل في شخصية العائد، وظلَّ فيها عالم الآخر محجوبًا بالحكايات العجائبية. وفي روايات المستوى الثالث، أصبح عالم الآخر مرئيًا، وتجلى إدراك الشخصيات لنفسها ووضعها في العالم، في مقابل الآخر؛ بيد أني سألتزم وضع هذه الروايات ضمن ثيمة الهجرة باعتبار أنَّ الروايات اليمنية إنما أرادت بمعالجة هذه القضية، في هذا المستوى، أنْ تكشف عيوب الهجرة في المهجر، ومأساة المهاجرين.
وتكشف روايات المستوى الثالث علاقة اليمني بالعالم الغربي الذي يفرض عليه علاقةً أساسها سلطة الأقوى، بينا لم يشعر اليمني في علاقته بالشعوب الأخرى في أفريقيا وآسيا بأي تمييز خاص؛ بل يمكن أن نقول إنَّه اندمج وذاب في هذه المجتمعات، في حين قابل اليمنيون الغربيين بالإعجاب والانبهار الذي ما لبث أن غاب واستحال خوفًا وصدمةً؛ إذ تكشَّف الغربي عن وحشٍ طماعٍ يهوى سلب الناس هويتهم، وأرضهم، وكل علاقاتهم.
وقد حكت رواية (طيف ولاية) قصة يمني دفعه بحثه عن نسبه إلى الهجرة، ثم ما لبث أن نسي هدفه الأصلي واندفع بحثًا عن الانتقام ممن قتلوا أباه وشرَّدوه هو وأمه، ثم ما لبث أن نسي هذا الهدف الثاني وبحث عن الاستقرار في الغرب؛ لكنه يفشل في تحقيق أهدافه كلها. ويخسر في مواجهة طمع الآخر الغربي حين يكشف عن سذاجته في مقابل طمع الغرب؛ إذ يتزوج امرأةً تشبه الفتاة التي أحبَّها وتعلَّق بها في اليمن، ويترك لها زمام أموره، فما تلبث أن تسلبه كل شيء وتهجره إلى عشاقها. وهذه العلاقة بالغرب تكشف طبيعةً مغايرةً لحياة الإنسان في المهجر، ففي رواية (يموتون غرباء) يقوم بطل الرواية بخداع النساء وإغوائهن في إشارة إلى سيطرته هو، بينا تظهر سذاجة اليمني هنا في مواجهة الغرب، وتكشف عن علاقة أشبه بعلاقة (الضحية والجلاد) (باقيس، 2014)
وتطرح رواية (رجال الثلج) قضية الحلم الأمريكي الذي يسعى الجميع إلى تحقيقه، ثم ما تلبث أن تظهر حقيقته مجسَّدةً في العنف المتفشي في نيويورك، والذي ما يلبث أن يأخذ حيواتهم. والرواية تحكي قصة ثلاثة مهاجرين يمنيين، وتحكي بعضًا من حياة المهاجرين العرب الآخرين، فيظهر لنا أنَّ الحلم الأمريكي أخذهم جميعًا إلى أمريكا، ما بين مسافر شرعي وغير شرعي، بحثًا عن حياةٍ أفضل. وتترك أمريكا المثقف منهم حائرًا خائفًا، بينا تترك العصابات المسلحة العامل البسيط منهم ميتًا مغمورًا بدمائه، أو محروقًا منثورًا رماده. فالكاتب في هذه الرواية يعالج قضية الحلم الأمريكي الذي يظهر أنَّه ليس حلمًا، بل كابوسًا يسلب حياة المهاجرين المخدوعين بالمستقبل.
(د) ثيمة القمع والإرهاب
تتمثل هذه الثيمة في الروايات اليمنية على مستويين: مستوى القمع السياسي الحكومي، ومستوى الإرهاب المتطرف. ويتجلى الأوَّل في روايتي (السمَّار الثلاثة) و(الملكة المغدورة). وفي الرواية الأولى، يتعرض الأبطال الثلاثة (السمَّار) للسجن مرَّاتٍ عديدة لسلب حريَّتهم، وهذا يمثِّل القمع، بيد أنَّه سرعان ما يمتزج بالإرهاب السلطوي الذي يفرضه عليهم رجل أمنٍ لانتزاع شهادة زورٍ منهم بوجود قاتل محترف معهم أثناء الجريمة. ويمارس رجل الأمن – الذي من المفترض أن يقدم الحماية – إرهابًا نفسيًا على السمَّار وضغطًا هائلًا يجعلهم في حالةٍ من الخوف والحذر، لا سيما أنَّهم كانوا من أوائل المنادين برفع الظلم، وبالحرية، وبأداء الحقوق. ويستدعي الكاتب صورًا من التاريخ اليمني لعرض مشاهد من أشكال القمع.
وتنقسم الشخصيات في رواية (السمَّار الثلاثة)، وفي كل الروايات التي تضطلع بتصوير هذه الثيمة، إلى قسمين: قامعة ومقموعة. وتؤدي القامعة دور الجلاد العنيف، والمقموعة دور الضحية العزلاء عديمة الحيلة في مواجهة القمع والإرهاب، وهي مؤهلة لهذا القمع؛ إذ تمارس حقَّها في التعبير عن الحرية، وعن القضايا السياسية، وعن اهتمامات الشعب؛ وهي الأشياء التي تسعى كل سلطة قمعية إلى إخراسها بالتصفية الجسدية.
وهذا النوع من الروايات زاخر بالمفارقة سواء على مستوى الألفاظ الساخرة، أو على مستوى الأحداث، أو على مستوى الشخصيات. وتبرز كل هذه المفارقات بسبب عدم صراحة الكُتَّاب، أو عدم قدرتهم على المجاهرة بموقفهم إزاء هذا الإرهاب، فيتغلغل في داخل نفس الكاتب خوفٌ من القمع شبيه بخوف شخصياته، يحيله إلى استخدام المفارقة للتعبير عن هذه القضية. كما أنَّ الروايات العربية التي تناولت هذا النوع من الموضوعات الذي تبرز فيه شخصيات متناقضة بين (الديكتاتور والمستعمر والإرهابي/ الوطني والمقاوم والمتمرد) رسمت فضاءً خاصًا، ووظَّفت اللغة بشكل جمالي للتعبير عن وضعٍ اجتماعي صعب، فكان أن ارتكزت على «السخرية، وتقنية القناع، والانشطار، بدلًا من الطرح المباشر» (اليبوري، 2000). فعدم ممارسة الفنان لحريته في التعبير، يجعله يخوض غمار التأليف الإبداعي، ويدفعه إلى ابتكار أساليب ذات قدرةٍ خاصة للتعبير عن واقعٍ قمعي استلابي خاص.
أمَّا المستوى الثاني، فيتمثل في رواية (المبشع)، ورواية (المكلا) لصالح باعامر 2003، ورواية (قصة إرهابي) لحسين بن عبيد الله 2007. ورواية (المُبَشِّع) لم تجسِّد شخصية الإرهابي كما تبرز في أذهان الناس باعتباره شخصيةً دينية؛ بل تمثل الرواية الأولى شخصية الإرهابي في شخصٍ مدعٍ، ادَّعى أوَّلًا أنَّه مشعوذ، يستدعي الجن، يكتب التمائم، ويستخدم السحر. وما إن يكتشف أهل القرية حقيقته حتى يختفي فترةً قبل أن يظهر في مكانٍ آخر وقد استحال شيخًا دينيًا متطرِّفًا له العديد من الأتباع المسلحين، وبهم يحاول فرض سلطته باستخدام قوَّة السلاح، وهي القوة التي لا يستطيع المثقَّفون التغلَّب عليها مثل ما حصل عندما كان مشعوذًا.
وفي رواية (المكلا)، يتحدث الكاتب عن تحوِّلات سياسية عام 1986 أفضت إلى ظهور حركات وجماعات إرهابية؛ بيد أنَّ الكاتب لم يكشف في الرواية إلى أيِّ جهةٍ تنتمي الجماعة الإرهابية في الرواية، بل اكتفى بالإشارة إلى أنَّه اتهم باليسارية، وحبس بسبب ذلك. وفي سجنه هذا، يستجر ذكرياته في سجنٍ حكومي، فيربط بهذا بين القمع السياسي الحكومي، والإرهاب اليميني.
وفي رواية (قصة إرهابي)، التي رويت بأسلوب حكي بسيط موجه إلى بسطاء الناس، وحافل بالإثارة السينمائية، تحكي إحدى الشخصيات نشأتها في جماعةٍ إرهابية في العراق، وتحكي شخصية والد هذه الشخصية كفاحه لاستعادة ابنه. وإذ يستعيد الأب ابنه في نهاية، يقرر هذا الأخير كشف حقيقة الجماعة الإرهابية ومخططاتها.
بدأت الرواية اليمنية بالمفكرين والثوار الَّذين وظَّفوا رواياتهم لتوعية الشعب اليمني، ثم انتقلت الرواية إلى مرحلةٍ أخرى كشف فيها الروائيون وضع اليمن في حقبة سابقة أرادوا بها أن يعالجوا أوضاع الزمن الذي عاشوا فيه من خلال نظرةٍ إلى التاريخ. وروائيو هذه المرحلة تعلَّموا خارج اليمن، وكان لاحتكاكهم بالآخر أثر في تشكيل بنيتهم الفكرية ما بين واقعية نقدية سلبية، وواقعية اشتراكية إيجابية؛ رصدت الأولى المجتمع وشخَّصتْ الأزمة فيه، وحاولت الثانية إيجاد حلول رومانسية تفاؤلية. أمَّا روائيو المرحلة الثالثة فقد حصلوا على تعليمٍ ممنهج في اليمن، واطَّلعوا على الآداب العربية والعالمية، وأكمل البعض منهم دراسته خارج اليمن. وكان لكل هذا دوره في تفعيل التجريب والإبداع في إنشاء رواية حديثة غنية بالتقنيات السردية، وبالاستغوار النفسي للشخصيات، وبتصوير الفضاء المكاني. ومن ميزات الروائيين في المرحلة الثالثة أنَّهم لم يكتفوا بروايةٍ أو اثنتين كما هو الحال مع الروائيين في المرحلتين السابقتين.
وقد تخيَّرتُ من الروائيين اليمنيين ثلاثة روائيين، روائي واحد من كل مرحلة. وقد راعيتُ في الاختيار أبرز الروائيين من حيث جوانب عديدة؛ فكان محمد علي لقمان أبرز روائي يمني في المرحلة الأولى باعتبار روايته أوَّل رواية يمنية، وباعتباره رائد حركة التنوير في اليمن. ومن المرحلة الثانية تخيَّرتُ محمد عبد الولي باعتباره رائد القصة اليمنية القصيرة. وتخيَّرتُ من المرحلة الثالثة وجدي الأهدل الَّذي ناقش في رواياته قضايا سياسية واجتماعية مناقشةً فنيَّةً، وكتب روايات تُرجمت إلى لغاتٍ أخرى، ونظرًا لتصنيفه من ضمن أفضل تسعة وثلاثين كاتبًا عربيًا تحت سنِّ الأربعين.
محمد علي لقمان
ولد محمد لقمان في السادس من نوفمبر، عام 1898م، في عدن. وقد نشأ وتعلَّم في عدن، وكان أوَّل يمني يحصل على شهادة الثانوية العامة في عدن. وقد عمل في إدارة مجموعة من المدارس في عدن بين عامي 1924 – 1928 قبل أنْ يُفْصل بسبب مقالةٍ بالإنجليزية أرسلها إلى دار تايمز أوف إنديا في الهند، انتقد فيها الأوضاع التعليمية في عدن. ثم انتقل إلى الصومال وعمل وكيلًا لشركة (ألبس) بين عامي 1930 – 1934، ثم سافر إلى الهند وحصل على شهادة الكفاءة في المحاماة عام 1938، فكان أوَّل محامٍ عربي في محاكم عدن والصومال. وفي عام 1940، أسَّس لقمان جريدة (فتاة الجزيرة)، وكانت أوَّل جريدة يومية يمنية. ويُعرف عن لقمان أنَّه كان معلِّمًا ومصلحًا اجتماعيًا، وقد سعى إلى تنوير أبناء اليمن، وتعليمهم، وإرسالهم للدراسة خارج اليمن (رحيم، 2010). وكان ذا فكرٍ حضاري يسعى إلى تحقيق نهضةٍ إسلامية متطوِّرة. وقد تشكَّل الفكر التنويري لديه باكرًا؛ إذ يُذكر أنَّه حاول الاتصال بغاندي في عام 1923، وحاول زيارته في السجن في مدينة أحمد أباد في الهند؛ لكنه لم يستطع لقائه إلَّا في عام 1931، عندما توقَّفت سفينة غاندي في عدن أثناء عبورها البحر نحو لندن للحوار. ويُذكر أنَّ غاندي هو من نصحه بدراسة المحاماة وإنشاء صحيفة لنشر الوعي (غانم، 2010).
وقد مات لقمان في الرابع والعشرين من مارس 1966 في مكة، تاركًا مجموعةً من الكتب ما بين تاريخية، وسياسية، ومذكرات، وأدب رحلات، منها: (قصة النور اليمنية) و(بماذا تقدَّم الغربيون؟)، وخلَّف عددًا من المقالات المنشورة في صحيفتي (فتاة الجزيرة) و(إيدن كرونيكل)، وروايتين إحداهما (سعيد)، والأخرى (كملا ديفي) المترجمة عن الهندية.
محمد عبد الولي
ولد محمد عبد الولي في الثاني عشر من نوفمبر عام 1939م بمدينة دبربرهان، في إثيوبيا، من أبٍ يمني وأمٍ إثيوبية. وقد انتقل والده إلى إثيوبيا بعد أن عقدت اليمن اتفاقية مع إثيوبيا لتبادل العمالة عام 1930. وقد هاجر بين عامي 1931 – 1950 نحو أربعمائة ألف يمني أو يزيد. وقد عمل هؤلاء المهاجرون في الزراعة قرب النيل، وتزوَّجوا إثيوبيات، ثم أنجبوا المولدين الذين عاشوا متذبذبين بين الانتماء إلى وطن آبائهم (اليمن) والانتماء إلى الوطن الذي ولدوا فيهم، وكان الكاتب من ضمن هؤلاء.
وبعد مدَّةٍ، انتقل هو وعائلته إلى العاصمة أديس أبابا، وهناك عاش في منطقة (سدس كيلو)، ورأى عالمًا مشبعًا بالتناقضات؛ إذ عاش في بيئةٍ متزمتة دينيًا في البيت، ورأى دعارةً وفسادًا في الشارع. وحينما بلغ الكاتب ستة أعوام، عام 1946، زار اليمن، ثم تتابعت بعدها الزيارات. وفي العام نفسه التحق بمدرسة الجالية اليمنية التي تعلَّم فيها اللغة العربية، والكتابة، والانتماء إلى الوطن.
وفي عام 1954، عاد الكاتب إلى اليمن وتزوَّج، ثم سافر للدراسة في القاهرة في العام التالي، والتحق بمدرسة المعادي النموذجية الثانوي. وفيها قرأ روائع الروايات العالمية، واشترك في رابطة الطلبة اليمنيين التي أُسِّست عام 1956. وفي عام 1959، طُرد من مصر بتهمة اليسارية، ومعه أربعةٌ وعشرون طالبًا. وبعد هذا تنقَّل بين إثيوبيا، واليمن، ثم سافر إلى روسيا وأنهى دراسته في معهد غوركي للآداب.
وقد عاد إلى اليمن بعد قيام ثورة 26 سبتمبر 1962، واشتغل في مناصب عدة في مكتب رئيس الجمهورية، ثم قائمًا بأعمال سفارات الجمهورية العربية في موسكو، وبرلين، ومقديشو. كما عمل مديرًا عامًا لشركة الطيران اليمنية، وأسَّس الدار الحديثة للطباعة والنشر في تعز. وقد سُجن الكاتب في عام 1968 مدَّة عام، وفي عام 1972 مدَّة ثمانية أشهر. وبسبب السجن بتهمة اليسار مرَّاتٍ عدة، قرر محمد عبد الولي الهرب إلى الجنوب والانضمام إلى الحزب الاشتراكي الذي كان مصنَّفًا لديهم على أنَّه خارجٌ عن خط الحزب وأيديولجيته. وفي الثلاثين من أبريل، 1973، صعد محمد عبد الولي ومن معه في طائرة قيل إنَّها ستأخذهم في جولة لتعريفهم على معالم المدينة، لكنها انفجرت براكَّبها. وقد توفي الكاتب في هذه الحادثة عن عمر 34 عامًا.
يعتبر محمد عبد الولي رائد القصة الحديثة في اليمن، وله مجاميع قصصية إضافةً إلى روايتيه (صنعاء مدينة مفتوحة) و (يموتون غرباء). وتنبثق شهرة محمد عبد الولي من أساسين: الأوَّل أنَّه نقل القصص اليمنية إلى مستوى حديث في السرد، وبروايته الأولى انتقلت الرواية اليمنية من مرحلة البدايات إلى المرحلة الواقعية. والثاني أنَّه سخَّر كتاباته الروائية والقصصية لمعالجة قضية الهجرة وآثارها على المهاجرين، وعلى أسرهم في أوطانهم، وعلى أبنائهم في المهجر.
وقد وظَّف محمد عبد الولي كل مراحل حياته، وكل مواقفه، وكل تجاربه توظيفًا أدبيًا فنيًا، منتجًا قدرًا كبيرًا من القصص وروايتين ذات أسلوب سردي عاليّ، فكتب عن الهجرة كتابةً إبداعية، وكتب عن السياسة، وعن السجن، وعن اليأس. وقد ظهرت إثيوبيا، واليمن، والقاهرة في كتاباته، بينا لم يذكر موسكو في كتاباته، وإن كان سفره ودراسته هناك قد ترك الأثر الأكبر على مستوى كتابته الإبداعية.
وجدي الأهدل
هو أديبٌ حديثٌ ولد في مدينة الحديدة عام 1973م، وحصل على البكالوريوس في الجغرافيا، وعمل موظَّفًا في وزارة الثقافة، وعمل مدير تحرير مجلة الثقافة. وقد صدر له أحد عشر كتابًا ما بين مجموعات قصصية، وروايات، ومسرحيات، وسيناريو. وقد ترجمت رواياته إلى لغاتٍ مختلفة؛ إذ ترجمت (قوارب جبلية) إلى الفرنسية، ورواية (بلاد بلا سماء) إلى الإنجليزية، ورواية (حمار بين الأغاني) إلى الإيطالية. كما وصلت رواية (فيلسوف الكرنتينة) إلى القائمة الطويلة لجائزة البوكر للرواية العربية، عام 2008. ويعد وجدي الأهدل واحدًا من ضمن أفضل تسعة وثلاثين كاتبًا عربيًا تحت سن الأربعين، بحسب هاي فيستفال للآداب البريطانية، بتقييم عام 2009.
له عدد من المجموعات القصصية وأربع روايات، أبرزها رواية بلاد بلا سماء التي نشرت عام 2008، وهي رواية مليئة بالرموز السياسية، والدينية، والقبلية، والثقافية. وتشكل نقدًا عامًا لطبقات المجتمع اليمني كله، كما تصوُّر وضع المرأة في اليمن ممثلةً في شخصية البطلة التي تتعرض للتحرش يوميًا. وشخصية البطلة هي رمز اليمن، والشخصيات الأخرى في الرواية هي رموز لطبقات المجتمع وسلوكهم إزاء وطنهم، والذي قاد في النهاية إلى انتهاء ذكرى البطلة والتخلص منه بحلول تلفيقية. وقد شكَّلت هذه الرواية نبوءةً بالوضع الذي آل إليه حال اليمن وقد أخذته صراعات الطبقات والأحزاب. وهذا من أبرز صفات الرواية الحديثة التي تستهدف عرض الصراعات الأيديولجية بين الطبقات.
من هذه المقالة نخلص إلى أنَّ الرواية جنس أدبي جديد يرتبط ظهوره بالتحول التاريخي في أوروبا. والرواية حديثًا في مقابل الملحمة قديمًا، جنس أدبي يظهر تطور الوعي البشري الذي ابتدع فنًّا أدبيًا مناسبًا للعصر الحديث الذي لم يعد أناسه يتصورون الأبطال، والآلهة، والأروح، والسحر؛ بل أصبح منتظمًا وفق قوانين وعلاقات ثابتة عبَّرت عنها الرواية في تصويرها للمجتمع (عزة، 2016).
وقد مثَّلت الرواية اليمنية الشعب اليمني وتاريخه، وعبَّرت عنه بأسلوب نثري عبَّر عن تطوُّر الحياة الفكرية في اليمن – وإن كان الشعر لا يزال مسيطرًا ومكتسحًا الساحة الأدبية في اليمن، تاركًا للرواية اليمنية زاويةً ضيِّقة في مجال النشر، والدراسة الأكاديمية، والنقد. وقد صرَّح المقالح بعجزه عن إيجاد سبب واحدٍ مسؤول عن استمرار سيطرة الشعر على ميدان الخلق الأدبي في اليمن. ولأنَّ ظهور الرواية يرتبط بتطور المجتمع، وتعقُّده، وتغير الرؤى والتصور، وارتقاء الوعي، نفى المقالح أنَّ التخلُّف سببٌ في سيادة الشعر، بل أرجع ذلك إلى ماهية الشعر نفسه، وإلى الواقع المضطرب الذي يمنع الأديب من الانهماك في عملٍ مطوَّل (المقالح، 1999). وفي رأيي، لا يبدو هذان السببان مقنعين البتة؛ إذ أنَّ الشعوب العربية الأخرى أنتجت أعمالًا روائية كثيفةً وعالية السردية في ظروف اجتماعية وسياسية سيِّئة.
وأرى عكس ما قاله المقالح، فالتخلُّف سببٌ في سيادة الشعر في اليمن. والتخلف هو التَّأخُّر، ويقال تخلَّف الشعب: أي تأخر وتجاوزته الأمم في مضمار الحضارة. وبنية الشعب اليمني لا تزال بنية قبلية تقوم على التحميس وإذكاء الهمم، وهو ما يتطلب خطابًا آنيًا حماسيًا سواء بالشعر الفصيح، أو الشعر العاميّ، أو الزوامل. وهذا المتلقي ذو العقلية القبلية لا يميل إلى قراءة السرد المطوَّل ولا يقتنع به، فنتج عن هذا عزوف الأدباء عن كتابة الرواية بسبب حال المتلقي الذي يفرض عليهم خطابًا من نوعٍ معيِّن. وهذا المتلقي هو السبب أيضًا في شيوع القصة القصيرة أكثر من الرواية.
وإضافةٍ إلى هذا السبب، أرى في القات سببًا في تفضيل القصة والشعر على الرواية؛ إذ أنَّ القات يسافر بالمرء (المُخزِّن) إلى آفاقٍ أخرى، فيفيض عقله بما يفيض من شعر أو قصةٍ قصيرةٍ ذات مستوًى عالٍ، ثم ينقطع جوه النفسي الإلهامي ما إن يتخلص الكاتب من القات، وينتهي إلى حالةٍ أخرى مناقضةٍ للحال التي كان عليها أثناء مضغ القات. فهذا الجو المزاجي المتقلب فرض على الكاتب جوًّا معيَّنًا خارجًا عن قدرته، وقصيرًا لا يناسب كتابة رواية طويلة. ومن هنا يكون لدينا سببان، يتعلق الأوَّل بالمتلقي المتخلِّف، والثاني بالكاتب المزاجي.
المصادر والمراجع
(1) الأدب العربي الحديث: مدارسه وفنونه وتطوره وقضاياه ونماذج منه، محمد صالح الشنطي، دار الأندلس للنشر والتوزيع، الرياض، الطبعة الخامسة، 2005.
(2) الروايات التي أحب، نخبة من الكتاب، ت: لطيفة الدليمي، دار المدى، الطبعة الأولى، 2018.
(3) الرواية العربية: عصر التجميع، فاروق خورشيد، دار الشروق، بيروت، الطبعة الثالثة، 1982.
(4) الرواية العربية: مقدمة تاريخية ونقدية، روجر آلن، ت: حصة إبراهيم منيف، المجلس الأعلى للثقافة، 1997.
(5) الوجه الآخر للنص: كتابات نقدية، عبد الرحمن الأهدل، مركز عبادي للدراسات والنشر، الطبعة الأولى، 2004.
(6) ببليوجرافيا السرد في اليمن (1993 – 2009)، إبراهيم أبو طالب، وزارة الثقافة، الطبعة الأولى، 2010.
(7) تاريخ الرواية الحديثة، ر.م. ألبيريس، ت: جورج سالم، منشورات عويدات، بيروت – باريس، الطبعة الثانية، 1983.
(8) تقنيات الخطاب السردي: بين الرواية والسيرة الذاتية، دراسة موازنة، أحمد العزي صغير، وزارة الثقافة والسياحة، صنعاء، 2004.
(9) تقنيات السرد في النظرية والتطبيق، آمنة يوسف، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، الطبعة الثانية، 2015.
(10) ثمانون عامًا من الرواية في اليمن: قراءة في تأريخية تشكل الخطاب الروائي اليمني وتحولاته، عبد الحكيم باقيس، دار جامعة عدن للطباعة والنشر، الطبعة الأولى، 2014.
(11) دراسات في الرواية والقصة القصيرة في اليمن، عبد العزيز المقالح، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، الطبعة الأولى، 1999.
(12) ضرورة الفن، إرنست فيشر، ت: أسعد حليم، مكتبة الأسرة، 1998.
(13) في الرواية العربية: التكون والاشتغال، أحمد اليبوري، شركة النشر والتوزيع المدارس، الطبعة الأولى، 2000.
(14) في نظرية الأدب، شكري الماضي، دار المنتخب العربي، الطبعة الأولى، 1993.
(15) في نظرية الرواية، عبد الملك مرتاض، عالم المعرفة (240)، 1998.
(16) قضايا الرواية العربية الجديدة: الوجود والحدود، سعيد يقطين، الدار العربية للعلوم ناشرون، الطبعة الأولى، 2012.
(17) ماهية الرواية، الطيب بو عزة، عالم الأدب، بيروت، الطبعة الأولى، 2016.
(18) معجم اللغة العربية المعاصرة، أحمد مختار عمر، الطبعة الأولى، 2008.
(19) معجم المصطلحات الأدبية المعاصرة، سعيد علوش، دار الكتاب اللبناني، بيروت، الطبعة الأولى، 1985.
(20) معجم مصطلحات الأدب، مجدي وهبة، مكتبة لبنان، بيروت، الطبعة الأولى، 1974.
المقالات
(21) رواية التأسيس في اليمن بين (فتاة قاروت) و(سعيد)، عبد القادر رحيم، مجلة المَخْبَر، الجزائر، العدد السادس، 2010.
(22) قصة روائي: محمد عبد الولي (القصة الكاملة لأشهر روائي يمني)، سامي الشاطبي. نزوى، عمان. العدد 74، أبريل، 2013.
(23) لمحة عن ظهورر الرواية العربية وتطورها، محمد هادي مرادي وآخرون، مجلة دراسات في الأدب المعاصر، العدد السادس عشر، شتاء 1391هـ.
(24) محمد علي لقمان رائد حركة التنوير في اليمن، شهاب غانم، 14 أكتوبر، 2010.
(25) مسار الرواية اليمنية، محمد الحوثي. نزوى، عمان. العدد 74، أبريل، 2013.
الْفُسْتَانُ الْمَصْلُوب هاجر منصور سراج 29 إبريل، 2025 الفستان الأحمر مرصع بخرزات لامعة، والتاج الصغير…
انْتِظَارٌ خَائِب هاجر منصور سراج 24 إبريل، 2025 كنتُ قَلقًا. وطوال الطريق إلى المدينة، أخذ…
أَخْبَرَهَا الظِّلُ هاجر منصور سراج 22 إبريل، 2025 تجهل الفتاة هوية الظل! يخبرها دائمًا أنَّه…
أين تختفي الأشياء؟ هاجر منصور سراج 17 إبريل، 2025 أين تمكث الرياح حين لا تهب؟…
هِي خَائِفَة هاجر منصور سراج 15 إبريل، 2025 تخرج العصافير كل يومٍ من مكامنها في…
وَجْهٌ ذَائِب هاجر منصور سراج 12 إبريل، 2025 تبدو دائمًا كأنها تراعي طفلة نائمة. تتحرك…